تاريخ النشر: 25 تشرين الثاني 2025


نقطة ضوء
الحرب التي غيّرت العالم (6)
الكاتب: حسن خضر

نعود، بعد وقفة قصيرة فرضها زلزال ممداني في نيويورك، إلى الكلام عن تحوّلات عميقة طالت الدولة والمجتمع الإسرائيليين على مدار العقود الثلاثة الماضية، ويبرز فيها بنيامين نتنياهو وسيلة إيضاح للتحوّلات المعنية من ناحية، و»الحرب التي غيّرت العالم» وهي من نتائجها الموضوعية من ناحية ثانية. وفي الحالتين، لم يكن ما حدث ليحدث نتيجة مهارات (أو حماقات) أيديولوجية وسياسية، بل تجلى في صورة وقائع وأحداث لم يصنعها بقدر ما صنعته.
وفي سياق كهذا، يجب النظر إلى عودة نتنياهو إلى إسرائيل في أواخر الثمانينيات، عشيّة الحدث الذي غيّر العالم، وتمثّل في انهيار الاتحاد السوفياتي، والكتلة الاشتراكية. كانت فكرة أوسلو (أي التفاوض على الحكم الذاتي مع الفلسطينيين، بعد الانتفاضة الأولى) من نتائج التقييم الاستراتيجي للجيش وأجهزة الأمن بعد نهاية الحرب الباردة، وانهيار المعسكر الاشتراكي، الحليف التاريخي للجمهوريات الراديكالية العربية، ومنظمة التحرير، ومصدر سلاح هؤلاء، وحصانتهم الدبلوماسية.
ومع ذلك، لم تكن فكرة أوسلو بمفردها قيد الاختمار والاختبار، بعد نهاية الحرب الباردة، بل نافستها، وأطاحت بها (على يد نتنياهو واليمين الأميركي في وقت لاحق) فكرة مضادة مفادها أن معادلة الأرض مقابل السلام، المقبولة على نطاق واسع في العالم، والمُستمدة من تأويلات متضاربة لقرار مجلس الأمن 242 في العام 1967، لم تعد قابلة للتداول.
ومع هذا كله في البال، في وسعنا قراءة وتحليل صراعات الحقل السياسي الإسرائيلي، منذ نهاية الحرب الباردة، على قاعدة التنافس بين فكرتين على طرفي نقيض. لم يكن قادة الليكود، الذين رافقوا مناحيم بيغين، منذ الأربعينيات، وخاضوا آخر حروبهم الفاشلة ضد الانسحاب من سيناء، في سن ولياقة ذهنية يصلحان لإفشال فكرة أوسلو، وتكريس فكرة عدم مقايضة الأرض بالسلام، ولم يكن أمراء الليكود الجدد، من أبنائهم وأحفادهم، أصحاب مؤهلات متساوية أو متجانسة، لذا بدت مؤهلات نتنياهو في المكان والزمان الصحيحين، وكأنها الحل المثالي لأزمة نقل الراية من جيل إلى آخر.
تناولنا في معالجات سبقت مهارات نتنياهو الخطابية، واستفادته من تقنيات حقل السياسة الأميركية، وما يتصل منها بتمويل وتنظيم الحملات الانتخابية. وقد جاء هذا كله في باب الكلام عن أمركة السياسة الإسرائيلية. ومع ذلك، يصعب النظر إلى المهارات المعنية بوصفها العامل الحاسم في تكريس عدم مقايضة الأرض بالسلام، والتربع على سدة الحكم، وتغيير الدولة والمجتمع الإسرائيليين على طريق الحرب التي غيّرت العالم.
يمكن العثور على العامل الأكثر حسماً في حقل السياسة الأميركية نفسها. يعرف الناس، في أربعة أركان الأرض، مرافعة عالم السياسة فرنسيس فوكوياما عن «نهاية التاريخ» بعد نهاية الحرب الباردة، والتي غالباً ما تعرّضت لسوء فهم عميق. فعلى الرغم من اختلافات وخلافات بيّنة، إلا ان المحافظين الجدد، الذين تشكّلت هويتهم قبل نهاية الحرب الباردة بعقدين على الأقل، لم ينظروا إلى نهاية الحرب الباردة كطريق إلى «سلام دائم»، بل رأوا فيها دليل تفوّق القوّة الأميركية، وصلاحية مسوّغاتها الأخلاقية والسياسية لهندسة العالم. وهذا يستدعي، بدوره، إعادة اختراع العدو.
وكما أن نقل الراية من جيل إلى جيل لم يكن ليتحقق في الحالة الإسرائيلية إلا بعد هزيمة الليكود في العام 1992، التي فتحت الطريق أمام زعامة نتنياهو بعد عام. فإن الانقلاب في حقل السياسة الأميركية لم يتحقق إلا في العام 1994، عندما نجح الجمهوريون في السيطرة على الكونغرس، للمرّة الأولى خلال أربعين عاماً.
وإذا شئنا الكلام عن اللحظة التي وُلدت فيها الترامبية، بالمعنى السياسي والأيديولوجي، ويمثل دونالد ترامب صورتها الكاريكاتورية، في وسعنا العودة إلى اللحظة الحاسمة في أواسط التسعينيات. صعد بين الجمهوريين في اللحظة المعنية شخص يدعى نيوت غينغريتش صار رئيساً لمجلس النواب.
واللافت، بقدر ما يعنينا الأمر، أن المذكور تبنى مواقف معادية تماماً للفلسطينيين، بطريقة غير مسبوقة، وغير مبررة، حتى في حقل السياسة الأميركية، فقد وصف الفلسطينيين بالإرهابيين، وأنكر وجودهم كشعب، وكان بهذا المعنى في حالة انسجام مع اليمين الإسرائيلي.  واللافت، أيضاً، أن غينغريتش نفسه يتصدّر طليعة المدافعين عن ترامب منذ ولايته الأولى، وقد نشر كتباً ومقالات كثيرة يبدو فيها ترامب كأنه أمل الأمة الأميركية ومُخلّصها.
ثمة ما يبرر عدم التعامل مع رئاسة نتنياهو لتجمع الليكود (1993) وسيطرة الجمهوريين على مجلس النواب (1994) ونشر وثيقة بعنوان «قطع جديد، استراتيجية جديدة لتأمين المجال» (1996، سنأتي على ذكرها في معالجات لاحقة) وهي السنة التي فاز فيها نتنياهو برئاسة الحكومة، كأحداث منفصلة، ومستقلة.
 وثمة ما يبرر عدم التعامل مع الأحداث المعنية، بعد الاعتراف بوجود صلة بنيوية بينها، في معزل عن نهاية الحرب الباردة، وصعود المحافظين الجدد، والصراع بين فكرتين على طرفي نقيض هما التفاوض مع الفلسطينيين على الحكم الذاتي، ومحاولة دحرها بفكرة مضادة هي عدم مقايضة الأرض بالسلام.
لم يصنع نتنياهو بيئة سياسية وأيديولوجية نجمت عن كل ما ذكرنا من تحوّلات، بل هي التي صنعته. وصار لزاماً عليه الالتزام بشروطها عن طريق التجربة والخطأ، فعندما أصبح رئيساً لليكود، وزعيماً للمعارضة، لم يكن قد أتقن لعبة التجنيد والتحريض بعد، ولم يكن قادراً على مجابهة حيتان من العماليين والليكوديين القدامى. كان عليه اثبات الجدارة في معركة حياة أو موت ضد اسحق رابين. وهذا ما يستحق المزيد من التفصيل. فاصل ونواصل على طريق الحرب التي غيّرت العالم.