تاريخ النشر: 25 تشرين الثاني 2025


دفاتر الأيام
حـسـام أبـو الـنـصـر فـي الـمـرآة
الكاتب: زياد خدّاش

طريقة تناول موضوع هذا النص مستوحاة من عنوان شهير لصفحة مثيرة في جريدة «مرآة الشرق» الفلسطينية التي أسسها بولص شحادة، 1882 - 1943 عام 1919، الصحيفة كانت تصدر مرتين أسبوعياً في القدس، اسم الصفحة (في المرآة) تتعاقب عليها أسماء مجهولة تشير إلى اسمها بالحرف الأول أو بكنية. ذهلت وأنا أقرأ ما كُتب عن خليل السكاكيني وإسعاف النشاشيبي وموسى العلمي وإبراهيم طوقان وعجاج نويهض، وعبد القادر المظفر وعادل جبر وخليل بيدس، وآخرين كثيرين، في المجالات كافة، الأدب والسياسة والتجارة والتعليم والصحافة والفن، كل عدد تقريباً هناك كاتب أو شاعر أو سياسي أو مثقف أو شخص مؤثر وملهم في موقعه ومجاله، يُوضَع في المرآة، ليكشفوا تناقضاته وحتى شكله وضحالة كتاباته وسخافاته وقبح ماضيه وجبنه مثلاً، لكنهم أيضاً لا يغفلون عن جوانبه الرائعة والمشرّفة وإنجازاته الأدبية ومكانته. ويبدو أن أحد أهداف هذه الزاوية هو التسلية والتندر وإثارة الفضول واستجلاب القرّاء والمشتركين، إلى جانب جديتها الفكرية.
لم ينجُ أحد من مثقفي تلك الحقبة من مخالب كتّاب هذه الزاوية، التي كان لها متابعون كثر. حتى بولس شحادة، مؤسس الجريدة وصاحبها، وُضِع في المرآة. ومما جاء في نقده في عدد 22 آذار 1928: «ليس بالطموح، بل قنوع، فلا يميل لتحسين جريدته ولا لمجاراة زملائه، معتقداً أن المشتركين هم هم، سواء صارت الجريدة يومية أم بقيت أسبوعية. غلبت عليه المادية حتى تظنه بخيلاً، يشكو ألم الفقر دائماً، ويتذمّر من الحالة الراهنة. وفي عدد آخر بتاريخ 7 تموز 1926، نقرأ عن المفكر والشاعر والمثقف الكبير محمد إسعاف النشاشيبي: «كان يود أن يسافر إلى أوروبا طلباً للعلم لكنه لم يتوفّق واقتصر على معلوماته المختصرة، وله عذر فهو لم يعرف من دهاقنة الغرب وفلسفتهم سوى الأسماء».
في الصحافة الفلسطينية على امتداد تاريخها لم أقرأ مثل هذه الصراحة والانفتاح، سيبدو الموضوع صعباً على ذهن شرقي تعوّد على الخوف من النقد، وأحب المديح والطبطبة وإخفاء الأخطاء وتبريرها السريع، لكن هذه الجريدة رجّت الحياة الاجتماعية والثقافية بشجاعتها وقوتها ورؤيتها المتقدمة. الغريب هو أن لا أحد من المنتقَدين (في المرآة) غضب أو شتم، أو رفع دعوى على الجريدة، كانوا يعرفون أن الهدف هو التندر، وتعوّد سلوك جديد في الصحافة الفلسطينية، يبحث عن الحقيقة حتى لو مرت على فضائح وأسرار الآخرين.
سأحاول أن أقلّد صفحة (في المرآة) وأفضح بالمعنى التندري الجمالي البريء الجانب المعتم في شخصيات قريبة من قلبي، أحبها ومعجب بها، ولا تتفاجؤوا حين أقبض على كاتب هذه السطور، وأحشره داخل المرآة، وسترونه وهو يقفز هلعاً وصدمة.
كنت أراه في الشارع ولا أجرؤ على الاقتراب منه، العشرات قالوا لي دير بالك منه، كنت أخاف من صوته، لديه صوت لا يتوقف عن التدفق، في كل سطر فيه ثمة شخص يطلق عليه النار بلا رحمة، وفي كل حرف ثمة اثنان صديقان تم التفريق بينهما، وتم الاحتفال بذلك، هذا الرجل فنان في تحويل جلسة حلوة لأصدقاء إلى معركة كلامية ومناكفات وصراخ.
لم أسع إلى لقائه وجهاً لوجه.. كنت ارتعب من فكرة أن يحشرني في صوته الزلزالي غير الراضي عن أي أحد، فأموت هناك صريع فضيحة.
يوماً ما صار حسام أبو النصر صديقي، اقتربت منه كثيراً، فإذا به يشبه ما قيل عنه، لكنْ ثمة طفل داخله يقفز مع كل نظرة أو حرف، طفل حزين ومتحمس وحساس ومجنون، وثمة رجل بسيط إذا وثق بك، تحول إلى قلب ينبض بالمحبة، وفي أثناء فيضانه اللغوي، إذا غضبت عليه وصرخت: يا زلمة اسكت خلينا نحكي، يبتسم ويلتزم الصمت، وهو كريم اليد، للأشخاص الذين لا يتوجس منهم تآمراً، ما زال يعمل في وزارة الثقافة، لم يرضَ عن أي وزير، يعتقد أنه مؤرخ شهير، الكثيرون لا يصدقونه، لكني صدقته، رأيت في دراساته صدقاً وانتماء، ومعلومات مهمة، خاصة في كتابه عن إبادة حضارة غزة، في مرات كثيرة رأيته في لقاءات بودكاست وفي ندوات، كنت أتساءل حائراً: يا جماعة هذا حسام أبو النصر الذي يحكي هذا الكلام العميق والمهم؟ معقول هو نفسه من ينشر باستمرار على صفحته تحذيراً للأصدقاء المضافين عنده بالحذف إن لم يتفاعلوا مع منشوراته؟
في الفترة الأخيرة حاول أن يقنعني أنه كاتب قصة، وأن قصصه جميلة وفريدة من نوعها، لم تعجبني ثقته بقصصه، فالمفروض أن يكون الكاتب قلقاً وغير متأكد من إبداعه، لكني مع ذلك، قرأت له قصة قصيرة من كتاب يعده للنشر، أذهلتني بطريقة عرضها لجراح غزة، وبلغتها المتماسكة البعيدة عن البكاء.
ومن أروع المشاهد التي أحبها في حسام الرعدة الضاحكة التي تنتاب وجهه حين يتحمس لفكرة، يهتز بدنه كله، وصوته يتحول إلى طفل يريد أن يحضن العالم.
ما زلت أهرب من حسام، فالجلسة الطويلة معه ترهقني، لكني حين أغيب عنه أحن فوراً إلى تدفق كلامه، وإلى غضبه من شخص يشك أنه عطل له دعوة لمعرض كتاب، أو استثناه من قائمة مؤرخين أو تسلم منصباً يظن أنه الأحق به، وإلى الحزن الخفي الذي يطل من شتائمه للآخرين.
حسام صوت في المدينة.. يهرب منه آخرون ويأتي إليه آخرون. وعلى رام الله أن تتحمل هذا الصوت. لأن الحياة متنوعة، ولا ملائكة أو شياطين فيها، ولأنها مع الهدوء والرتابة والكمال تبدو مملة.