أيها السيدات والسادة، أصحاب السعادة والمعالي، قادة الأسرة الرياضية العالمية،
أيها الزملاء الرياضيون، أيها الأصدقاء، ويا أصحاب الضمائر الحيّة في كل مكان،
أخاطبكم اليوم بلسان الحقّ، وبثقة المؤمن بعدالة قضيته؛ لا بصفتي رئيساً للجنة الأولمبية الفلسطينية فحسب، بل بصفتي شاهداً على ما يفوق الخيال والتصور، وصوتاً لمن كُمِّمت أفواههم، وأميناً على حُلمٍ يُحال قسراً وجبراً إلى رماد.
أخاطبكم من قلب فلسطين الجريحة... من بين ركام ملاعبنا وحطام آمالنا. أحمل على كاهلي وطأة سبعمئة وثمانية عشر يوماً من حرب إبادة شاملة لا تعرف هوادة ولا رحمة. وأنقل إليكم رسالة شعبٍ أضحى فيه الصراع من أجل البقاء ميدانه الأوحد للمنافسة. إنّها رسالة من تبقى منّا على قيد الحياة، لا ندري إن كان سيُكتبُ لنا عمرٌ لنخاطبكم مرة أخرى، أم هل سنلتقي مجدداً في ميادين الشرف التي يفترض بها أن توحّد عالمنا وتشيع السلام وتُعلي من شأن الكرامة الإنسانية.
لا تصغوا إلى كلماتي وحدها، بل أنصتوا إلى صوت أعلى سلطة أخلاقية في العالم. فبالأمس القريب، وقف الأمين العام للأمم المتحدة، السيد أنطونيو غوتيريش، ليعلن حقيقة ينبغي أن تزلزل أركان عالمنا، حين قال: "إنّ ما نشهده في غزة مروّع... وهو أسوأ مستوى من الموت والدمار شهدته في فترة ولايتي، بل وفي حياتي كلها... إنّ الأهوال... لا مثيل لها في التاريخ الحديث".
هذا ليس رأياً سياسياً، بل هي شهادة للتاريخ. وهذا ناقوس خطر أخير للبشرية جمعاء، بما في ذلك أسرتنا الرياضية العالمية. إنّه إعلان بليغ عن إخفاق جماعي في وقف إبادة جماعية تجّتثّ شعبي من أرضه وتاريخه ومستقبله.
وهذا ما يقودني إلى جوهر حركتنا... إلى الميثاق الأولمبي ومواثيق حقوق الإنسان وعهودها. أدعوكم أن تستحضروا المبادئ التي أقسمنا جميعاً على الذود عنها: أنّ نضع الرياضة "في خدمة التنمية المتناغمة للبشرية"، وأن نعزز "مجتمعا سلمياً يهتم بالحفاظ على الكرامة الإنسانية". اليوم، لا أملك إلا أن أطرح سؤالاً بسيطاً في مبناه، موجعاً في معناه: أين هي تلك الكرامة للرياضي الفلسطيني؟
دعوني أضع بين أيديكم حجم الفاجعة والثمن البشري الذي تكبدته أسرتنا الرياضية: أرواح ما يزيد على ألف رياضي ورياضية قد أُزهقت. آلاف آخرون بين جريح ومقعد. المئات يقبعون في غياهب السجون. وعشرات الآلاف شُرِّدوا وأضحوا بلا مأوى. ملاعبنا، صالاتنا، أحلامنا... كلها دُكَّت دكاً لتتحول إلى أثرٍ بعد عين . هذه ليست مجرد أرقام صماء؛ هؤلاء كانوا زملاءنا... كانوا أبطال مستقبلنا... كانوا أطفالنا الذين تطلعوا إليكم -إلينا جميعاً -كرموزٍ للأمل. ولذا، أقف اليوم لأتساءل، وأسألكم أيها الزملاء والأصدقاء الكرام: هل يجوز للحركة الأولمبية، حركتنا، أن تقف مكتوفة الأيدي بينما ينتهك أبسط حق من حقوق الإنسان—الحق في الحياة—بحق أعضائها؟ وهل نحن على استعداد لأن نسمح لشريعة الغاب والهمجية التي نعاينها كل يوم أن تصبح الدستور الجديد لمستقبلنا المشترك؟ وبأسف يعتصر القلب، لا بد لي أن أتحدث عن التواطؤ الصارخ؛ فالمنظومة الرياضية الإسرائيلية لم تكتف بالصمت المطبق، بل كانت شريكاً فاعلاً: إنها تدمج بكل صفاقة أندية المستوطنات - المقامة على أرضي على نحو يخالف الشرائع والقوانين - في دورياتها، في انتهاك سافر للقانون الدولي وميثاقنا الأولمبي. وفي مفارقة تجافي العقل وتستفز الضمير، يُتَّهم كل من يجرؤ على انتقاد هذه الجرائم النكراء بــ "معاداة السامية"، بينما تُوصف الإبادة الجماعية بأنها "دفاع عن النفس"!
أيها القادة الأجلاء، أيها الأصدقاء... حرب الفناء هذه مستعرة منذ سبعمئة وثمانية عشر يوماً. إنّها حرب تجويع ممنهج، وحصار خانق، ومنهجية موت تمنع شربة ماء أو جرعة دواء عن طفل رضيع وأمٍ ثكّلى في غزة. نحن لا نطلب معاملة خاصة، بل نطالب بتطبيق المبادئ عينها التي أقسمتم على حمايتها: العدالة والمساواة والكرامة الإنسانية. إنّ واجبكم، بل واجبنا الجماعي، يقتضي تحركاً حاسماً لا تردد فيه.
إنّ ضمير الإنسانية وشرائع السماء تجتمع على حقيقة أزلية واحدة: قدسية الحياة. ففي التوراة وصية خالدة: "افتح فمك لأجل الأخرس... اقض بالعدل وحام عن الفقير والمسكين". وفي الإنجيل دعوة سامية: "طوبى للجياع والعطاش إلى البر، لأنهم يُشبعون". وفي القرآن الكريم حكم إلهي جامع: ﴿ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا... فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ﴾.
اليوم، وغداً، وإلى أن تضع حرب الإبادة هذه أوزارها، أحمل إليكم هذه الصرخة معززة بهذه الوصايا المقدسة. أحمل أرواح شهدائنا، وآخر بصيص أمل في عيون أطفالنا الذين ما زالوا على قيد الحياة. أضع ذلك كله أمانة بين أيديكم، وفي قلوبكم.
وإنّي على يقين بأنكم قادة تتحلون بالنزاهة، وأمناء على ميزان العدل. أروا العالم أن قيمنا الأولمبية ليست مجرد حبر على ورق، بل هي التزام حي بإنسانيتنا المشتركة، وأنه لا مكان لازدواجية المعايير والكيل بمكيالين، بل لحكم العدل والإنصاف دون تمييز أو تفريق.
شكراً لكم... وشكراً لشجاعة الاستجابة لنداء أرواح الضحايا.