تاريخ النشر: 21 أيلول 2025


آراء
أُقسم وأشهد يا غزة
الكاتب: ريما كتانة نزال

أشهد يا غزة، أنكِ كنت مدينة الكرم والعطاء، وأن عطاءك استمر على مدار الساعة، قبل المحرقة وبعدها. وأشهد أنك حملتِ القضية المنهكة على دمائك وتعبك لتصلي بها إلى المحافل والمؤتمرات والشوارع والميادين، لتصبح خط الدفاع الأول في وجه الإقصاء والطمس والاستبعاد، لأنك المدينة التي أعطت المثال على أن المدن الأصيلة لا تموت حين يقرر القتلة إعدامها، لأنك تتنفسين إرادة وحياة، واستطعتِ إخراج المدن الكبيرة عن صمتها، لترى بأُم عينها بأن غزة ليست خبرًا عابرًا ولا هامشًا أو مجرد عنوان رئيسي في نشرات المساء، بل نداء الإنسانية المعذبة؛ وصوت الأحياء والأموات حين تخرج من بين الركام؛ تُذكّر العالم بأن المدن العاشقة للحياة لا تموت حين يقرّر القتلة، بل حين يكفّ الناس عن حبها للبلد الذي يُقاوم من أجل الوجود.
وأشهد يا غزة، شهادة مشفوعة بالقسم على عناد غزة وتشبثها بالحياة في أقسى الظروف، وبأن الغزاة الأغراب قد قاموا بتدمير البنايات واحدةً تلو الأخرى، فصارت الأبراج العالية ركاماً يغطي الأزقة والشوارع، وبعد أن كانت تضج بالحياة صارت ممرات ضيقة للناجين، هواؤها مُشبع بالغبار والدخان، حتى الشمس باتت تتسلل بوجه باهت من خلف سحابة كثيفة من الخراب.
وأشهد بأن أصوات سيارات الإسعاف لم تتوقف لحظة، بل استمرت في التقاطع مع صرخات تبحث عن مفقودين تحت الأنقاض، فيما المستشفيات التي كانت ملاذًا للجرحى تحولت إلى ساحات مكتظة بالعاجزين عن تلقّي العلاج.
وأشهد بأن في كل ركن غزاوي استمر كشاهد على ما كانت عليه غزة: حقيبة مدرسية عالقة بين حجارة مهدّمة، دراجة طفل ما زالت واقفة قرب حائط سقط فوق صاحبها، فستان زفاف تحوّل حُلمه إلى ذكرى مشوّهة، صورة عائلية ملوّثة بالتراب.
وأشهد بأن غزة لم تعد صالحة للحياة، لكنها تأبى الرحيل، رغم كل شيء، هناك وجوه ترفض الاستسلام: نساء يجمعن ما تبقى من متاع لينسجن من الخسارة حكاية بقاء، أطفال يخرجون من بين الأنقاض بأعين أوسع من المأساة، ورجال يرفعون حجارة الركام ليصنعوا منها دعامات لما تبقى من جدران بيوتهم، كشهود على جريمة تريد اقتلاع كل شيء.
وأقسم يا غزة أنك ستنهضين، ستعلنين أنكِ خرجتِ من تحت الردم والركام كما دائماً، وردّ عربات جدعون الأولى والثانية بعد تعبها منك وتعب التعب منك، بعد محاولات متكررة لمسحك عن المخططات والخرائط.
 وأقسم بأن صباحاتك ستعود لك مع عودة أصوات الباعة ورائحة الخبز الطازج، لأن غزة تعرف كيف تجد الطريق وتعود من حيث خرجت لفتح أبوابها للبحر والشمس، تعود لزراعة الأشتال فوق التراب المحروق والإبقاء على البريق في العيون التي اشتدت عليها العتمة، واستقبال مرحلة جديدة مسجلة على جبينها.
وأقسم أنك يا غزة لم تكوني يومًا مجرد مدينة صغيرة على خريطة العالم، بل كنتِ دوماً مدينة كبيرة من لحْم وذاكرة وتاريخ، مدينة من أصوات الأطفال ومراكب الصيادين التي تعود عند الفجر محمّلة بالأمل، مدينة من بيوت صغيرة وأبراج عالية تتقاسم رغيف الخبز والحكايات، وحياة سُرِقت قبل أن تكتمل، وبيوت تحضن حكايات أطفأها الحقد العنصري وحوّلها العسكر إلى مقابر صامتة، لكنها انتزعت احترام العالم وإعجابه.