تاريخ النشر: 21 أيلول 2025


دفاتر الأيام
عن الدموع والعواطف والبكاء
الكاتب: عادل الأسطة

في صباح ١٤ أيلول كتب الناشط الغزاوي عبد الكريم عاشور الذي عاش أخوه في بيروت، أيام حصارها في العام ١٩٨٢ وخرج مع الخارجين، ومن المؤكد أنه قص عليه الكثير عن النزوح، كتب هو الذي سينزح في ١٨/ ٩/ ٢٠٢٥ عن غزة نحو جنوب القطاع، في يومياته «يحدث في غزة»، الآتي:
«عالم المصالح لا يعرف الرحمة، وغزة منسية.
كما الأفراد، تحرك الدول المصالح فقط، لا القيم والمبادئ. فلا تغرنكم الشعارات الغربية عن «الشرعية الدولية»، و»حقوق الإنسان»، و»القيم الإنسانية المشتركة». كل هذه الخطب ليست سوى ستار مزخرف يخفي الحقيقة العارية:
في عالم اليوم، لا يحكم سوى المصالح، ولا شيء غير المصالح.
الشعارات بلا وزن، والعواطف بلا قيمة. وحدها القوة الملموسة تمنح الاعتبار.
وإن لم تمتلك بلدك تميزاً نسبياً في أحد المجالات الآتية:
- إنتاج صناعي أو سلعي متطور/ - موارد طبيعية فريدة/- صناعة فكر وثقافة «قوة ناعمة»/- موقع جغرافي استراتيجي، فإنك ستجد نفسك عارياً منبوذاً بلا قيمة بلا تأثير.. ضائعاً في هذا العالم القاسي».
ويرى أن غزة لا تملك أياً من هذه المزايا، ولهذا فإن مصيرها مكشوف وعجزها كذلك. إنها ليست مكاناً، بل صرخة في صمت المصالح يتجاهلها الأقربون كما القوى الكبرى.
إنها لا تعني، للعالم الخارجي، شيئاً، وإن كانت للغزي كل شيء. إن العواطف والبكاء والدموع بلا قيمة، وهذا موقف شخص كلاسيكي، والكلاسيكية بخلاف الرومانسية، فقد حلت الأخيرة المشاكل بذرف الدموع وقدمت العاطفة على العقل، وكانت لذلك موضع سخرية الأولى.
ويبدو أن ما رآه عاشور يصيب كبد الحقيقة، فبعد العام ١٩٤٨ بكى الفلسطينيون الديار في حياتهم وفي أكثر أدبياتهم ولم يفعلوا شيئاً، وظلوا قابعين في خيامهم أولاً وفي بيوتهم الإسمنتية لاحقاً، ولم يدقوا جدران الخزان.
إن هذه العبارة التي وردت في رواية غسان كنفاني «رجال في الشمس» تختصر مرحلة كاملة، وإن لم يكن كنفاني الوحيد الذي عبر عن ذلك.
إن كل من درس أدب النكبة خلص إلى أن ظاهرة البكاء والحنين صبغت نصوص الأدباء، ومنهم الشاعرة فدوى طوقان في قصيدتها «لن أبكي» التي كتبتها بعد حزيران ١٩٦٧، بعد لقائها بشعراء الأرض المحتلة. لقد خاطبتهم قائلة:
«يمينا بعد هذا اليوم لن أبكي».
موقف طوقان تجسد معكوساً في رواية كنفاني «عائد إلى حيفا» على لسان خلدون/ دوف الذي تركه والداه في حرب ١٩٤٨ وربته عائلة يهودية. لقد خاطب والده البيولوجي سعيد. س، بعد لقائه به بعد ١٩ عاماً، قائلاً:
«- مقيدون بتلك السلاسل الثقيلة من التخلف والشلل! لا تقل لي إنكم أمضيتم عشرين سنة تبكون! الدموع لا تسترد المفقودين ولا الضائعين ولا تجترح المعجزات! كل دموع الأرض لا تستطيع أن تحمل زورقاً صغيراً يتسع لأبوين يبحثان عن طفلهما المفقود.. ولقد أمضيت عشرين سنة تبكي..! أهذا ما تقوله لي الآن؟ هذا هو سلاحك التافه المفلول؟».
ويدرك سعيد.  س ما أدركته فدوى ويتوصل إلى أن الحل لن يتحقق إلا بين ندين لا بين منتصر ومهزوم، وتكون البداية في رواية لاحقة له هي «أم سعد».
لقد انتظر أبو سعد عشرين عاماً ولم يحقق شيئاً. بكى وحن وانتظر وظل في المخيم.
منذ عامين وشعوب كثيرة ومنها الشعوب العربية تتعاطف مع أهل قطاع غزة وتدبج المقالات وتكتب القصائد، وهذا كله لم يوقف الحرب ولم يطعم الجوعى المحاصرين ولم يداوِ الجرحى ولم يوقف الإبادة وتدمير المباني، والسبب معروف وواضح، فالأمة العربية كلها لا تملك مما عدده عبد الكريم عاشور في منشوره، إذا استثنينا النفط الذي لم تعد تستخدمه منذ ١٩٧٣ كسلاح، شيئاً.
في مقال نثري كتبه محمود درويش تحت عنوان «في وصف حالتنا»١٩٨١ توصل إلى أن الدعاء لم يوقف العبث بمصير الشعب الفلسطيني، وفيه شخص أيضاً حال الأمة العربية:
« إن الصلاة،/ خير من التفكير بالبلد البعيد وبالضحايا،/ إن الزكاة/ بفارق الأسعار والبترول خير من مساعدة السبايا/ خبأت جسمي في الشظايا/ والشظايا ملء جسمي/ فاختلطنا: المعدن البشري واللحم الحديدي/ اختلطنا/ أنا لا أريد دعاءكم... أنا لا أريد سيوفكم/ فدعاؤكم ملح على عطشي/ وسيفكم علي».
وكان مظفر النواب في قصيدته  «تل الزعتر» أتى على فكرة الدموع والعواطف التي لا يهتم الغرب بها، فقال:
 «ويقول القبطان بدون عويل شرقي وببطء:
آباء الغرب المحترمين سلاما/ نحن النجس الشرقي/ جئنا لنقدم هذا الشكر لكم/ فوق سفينتنا همس القبطان:
- بدون عويل وبدون صراخ شرقي.. صفا صفا، فالغرب يحب التنظيم
ولا يهتم بعاطفة متأخرة يذرفها الشرق البائس».
هل نقول إن تعاطف الشعوب الغربية مع غزة لم يوقف أيضاً الحرب، علماً بأن مواقف حكوماتها بدأت تتغير؟