تاريخ النشر: 11 أيلول 2025

غادة الكرمي.. من إحباط القضية إلى إبداع الرواية!

 

كتبت بديعة زيدان:

 

في حوارية حميمة وعميقة، أخذتنا الكاتبة والأكاديمية والطبيبة الفلسطينية، غادة الكرمي، في رحلة عبر محطات حياتها الإبداعية والإنسانية، كاشفةً عن الدوافع التي قادتها من ممارسة الطب، فالكتابة عن القضية الفلسطينية، إلى عالم الرواية التاريخية مع عملها الروائي الأول، "مرجانة"، الصادر حديثاً بالإنكليزية.
جاء ذلك في دردشة معها، بتنظيم من "سلسلة نادي الكتاب"، بإدارة، أمواج أبو حمدة، واحتضنتها قاعة سينما "الرينبو" في العاصمة الأردنية عمّان، مساء أول من أمس.
استهلت الكرمي حديثها بالكشف عن شغفها الأزلي بالقصص، وهو شغف وُلد معها وشكّل هويتها منذ الصغر، لتروي بابتسامة كيف أن هذا الميل كان محور صراع مبكر حول مستقبلها بين والديها، ففي حين كان والدها يصر على دراستها الطب، كانت والدتها ترى الحقيقة الكامنة في ابنتها، حيث خاطبت زوجها قائلة: "ما لك ومالها؟ هذه ليل نهار بتحكي قصص، شو دخلها بالطب؟".
رغم كل شيء، انتصرت طاعة الوالد، وسلكت الكرمي طريق العلم، فدرست الطب ومارسته سنوات، واصفةً إياه بأنه "مجال بعيد جداً عن الكتابة الروائية"، لكن شغف الحكاية ظل كامناً، منتظراً اللحظة المناسبة للظهور.
بعد سنوات من ممارسة الطب، عادت الكرمي إلى شغفها الأول، لكن هذه المرة من بوابة السياسة والقضية، ككاتبة وناشطة سياسية تعيش في بريطانيا، وجدت أن مهمتها الأولى هي الكتابة عن فلسطين، ليس للجمهور العربي، بل للغرب الذي تعتبره أساس المشكلة.. تقول الكرمي: "كانت فرصة لي وأنا أعيش في الغرب، أن أنشر قصة فلسطين أمام القارئ الإنكليزي بشكل خاص، لأنه بريطانيا أساس المشكلة"، ومن هذا المنطلق، كتبت مذكراتها الشهيرة "بحثاً عن فاطمة" وأعمالاً أخرى، وكان دافعها الأول إيصال الوعي بالقضية لمن تسببوا بها.
كشفت الكرمي عن لحظة محورية دفعتها إلى تغيير مسارها الإبداعي بشكل كامل، فبعد سنوات طويلة من الكتابة والنضال من أجل فلسطين، وجدت نفسها في مواجهة حقيقة مؤلمة.. تشرح بصراحة تامة: "قبل خمسة أعوام تملكني الإحباط، فبعد عمل لنصرة القضية الفلسطينية لعقود، بات الوضع الفلسطيني أكثر سوءاً".
هذا الشعور باللاجدوى دفعها إلى التساؤل: "لأجل ماذا كل هذا التعب ما دامت لا نتائج تُذكر على أرض الواقع"، وعليه قررت الكرمي أن تأخذ "إجازة" من الكتابة المباشرة عن فلسطين، ليس يأساً من القضية، بل رفضاً لترويج مشاعر الإحباط واليأس، ومن رحم هذه الاستراحة المؤلمة، وُلد دافع جديد للكتابة، فكانت رواية "مرجانة".
عند الحديث عن انتقالها من الكتابة الواقعية إلى عالم الرواية الخيالية، فاجأت الكرمي الحضور بالكشف عن أن تدريبها الطبي كان له أثر كبير في كتابة الرواية.. أوضحت قائلة: "لاحظت أن تدريبي في الطب أفادني كتيراً في كتابة هذه الرواية.. ليس بما له علاقة بتاريخ الطب العربي، بل باستخدامي لما يسمى المنهج العلمي".
فالرواية، وإن كانت قصة حب خيالية، إلا أن إطارها التاريخي مبني على بحث علمي دقيق استمر أكثر من عامين، بحيث غرست الكرمي قصتها في تربة خصبة من الحقائق حول بغداد في العصر العباسي، وتاريخ الدولة الإسلامية، بهدف أن يشعر القارئ أنه يعيش في ذلك الزمن والمكان.. هذا البحث لم يكن مجرد أداة للكتابة، بل كان رحلة شخصية لها، حيث تقول إنها بعد حالة التيه في الواقع المُعاش، أُعجبت بذلك العصر الذي تصفه بالمعجزة، مُتسائلة بحسرة: "كيف لم نكن نعي وندرك أهمية هذا التاريخ المجيد؟ ولماذا نحن منشغلون بمشاكلنا اليوم فحسب؟ لماذا فقدنا الوعي بأن لدينا أرثاً غنيّاً وعظيماً أنتجته الحضارة العربية الإسلامية؟".
وقدّمت الكاتبة الفلسطينية روايتها "مرجانة" ليس كعمل خيالي فحسب، بل كرحلة تاريخية ونفسية عميقة، وكمشروع لاستعادة ذاكرة أمّة، مؤكدة أن اختيار العصر العباسي لم يكن عشوائياً، بل كان قراراً مقصوداً لاستحضار تلك الفترة الذهبية.
ولفتت الكرمي إلى أنها، ومن خلال تصوير الإنجازات الهائلة في ذلك العصر: في الفن، والعمارة، والطب، والفلسفة، والكيمياء، وغيرها، تطرح سؤالاً مؤلماً يتعلق بمرحلة الخنوع التي يعيشها العرب هذه الأيام.
الرواية، إذن، ليست مجرد حنين للماضي، بل مرآة للحاضر، ونداء لاستعادة الوعي بتاريخ أمة كانت في أوج عظمتها، بحيث تشكل "مرجانة" أكثر من مجرد قصة حب في بغداد القديمة.