ساعات قليلة بين إعلان بنيامين نتنياهو الاحتفال بدقّة ما أنجزه جيشه وأجهزته الاستخبارية، وبين الأخبار التي جاءت لتعلن عن الفشل في اغتيال وفد حركة حماس المفاوض في العاصمة القطرية.
اثنا عشر صاروخاً أطلقتها الطائرات الحربية الإسرائيلية على المكان الذي يجتمع فيه الوفد المفاوض، فشلت في اصطياد هدفها، وأصابت عدداً من المرافقين، من بينهم نجل د. خليل الحيّة.
النشوة المؤقّتة التي أصابت المستويين السياسي والأمني، وأشادت بها «المعارضة» التقليدية، انتهت إلى حالة من الإرباك الشديد على غير مستوى، قابلها نتنياهو بإطلاق التهديدات بأنه سيواصل العمل لتنفيذ مزيد من الاغتيالات.
لا حصانة لأحد، هكذا يبرّر انتهاكه لسيادة دولة عربية، ليست في حالة مواجهة أو حتى عداء مع الدولة العبرية، لطالما لعبت دور الوسيط خلال الحرب العدوانية، وقبلها، برضى ودعم من واشنطن التي اعتبرتها دوماً أنها من أقرب حلفائها.
رفع الحصانة، بحسب نتنياهو، بما أنه استهدف سيادة قطر فإنه يشمل كل العواصم العربية، وجزءاً من عقيدة إعادة رسم صورة وواقع الشرق الأوسط، في الطريق لتحقيق أهداف دولة الاحتلال الإستراتيجية، الطامعة بالسيطرة على أراضي دول عربية تتجاوز «دول الطوق»، وتشملها.
القصف الذي استهدف الوفد المفاوض، إنما يستهدف المفاوضات والمسار السياسي والدبلوماسي، ويؤكد أن إسرائيل ماضية بحروبها الإجرامية والتوحُّشية على المنطقة.
هو استهداف للوسيطين العربيين، مصر وقطر، وانتهاك صريح ووقح للكرامة العربية وسيادتها، وهو استهداف بمعنى أو آخر للرئيس الأميركي دونالد ترامب، صاحب المبادرة الأخيرة التي فوجئ الجميع بمحاولة اغتيال الوفد الذي كان يناقش الردّ عليها.
ليس في الأمر ما يدعو للغرابة، فلقد تعوّد رؤساء أميركيون على تلقّي الإهانات من قبل نتنياهو ووزراء في حكومته الفاشية، ولكنهم يبتلعون تلك الإهانات، إلّا في مرّة واحدة، حين سمح الرئيس باراك أوباما، بتمرير قرار في مجلس الأمن الدولي، يدين الاستيطان ويعتبره انتهاكاً للقانون الدولي.
إن كان الرؤساء الأميركيون يبتلعون الإهانات، لأسباب تتصل بقوة مراكز الضغط الصهيوني، والتزاماً بموقف إستراتيجي يقف خلف دولة الاحتلال بكلّ ما أوتي من قوة، فإن التساؤل هو، لماذا يلوذ القادة العرب بالصمت إزاء ما يتعرّضون له من إهانات ومخاطر؟
ثمة من يريد أن يصدق ترامب من أنه لم يمنح دولة الاحتلال الضوء الأخضر للقيام بما أقدمت عليه، وبأنه لا يرى فيما وقع، مصلحة لها ولبلاده، فلقد قال نائبه إن ثمة شيئاً إيجابياً في ما وقع وهو التخلّص من قيادة سيئة، ويقصد وفد «حماس» المفاوض.
يلوذ العرب بتصريحات الإدانة، والشجب ووصف ما تقوم به إسرائيل بأنه انتهاك للقانون الدولي والأعراف الدبلوماسية، ولكنهم لا يجرؤون على تجاوز لغة الخطاب، بينما يملكون أوراقاً كافية لردع الاحتلال، إن لم يكن من باب حماية أنظمتهم من خطر محدق وقادم، فعلى الأقل للحفاظ على استقرارهم الداخلي.
لا يزال الجنون هو سيد السياسة الاحتلالية الفعلية من دون الاستفادة من دروس التاريخ. دروس التاريخ تؤكد أن دولة الاحتلال اعتمدت سياسة الاغتيالات، منذ أوائل سبعينيات القرن الماضي، لكنها لم توقف النضال الفلسطيني.
واغتالت العديد من كوادر وقيادات منظمة التحرير الفلسطينية في دول أوروبية حليفة لها، واغتالت، أيضاً، كل القيادة المؤسّسة لحركة فتح، بما في ذلك رئيسها الشهيد أبو عمار، ولكن الحركة لم تتوقّف.
واغتالت كذلك، كل قيادة حركات المقاومة الإسلامية من «حماس» إلى «الجهاد الإسلامي»، ولكنها لم تنجح في وقف النضال الفلسطيني.
والحال ذاته بالنسبة لفصائل أخرى، من المنظمة، ولكنها تفشل في قتل الفكرة، وفي كل مرّة، تظهر قيادات أخرى، لا تقلّ تمسُّكاً بالحقوق الوطنية عن سابقاتها.
وفي السياق ذاته، اغتالت دولة الاحتلال قيادات الصفّ الأوّل والثاني، وعدداً كبيراً من قيادات وكوادر «حزب الله» اللبناني، واغتالت، أيضاً، رئيس وزراء حكومة جماعة «أنصار الله» «الحوثيين» اليمنية وآخرين، فهل نجحت في فرض الاستسلام على أحد؟
قد لا يتعاطف العالم، خاصة «الغربي»، مع المستهدفين بالاغتيال، ولكن العالم لا يستطيع تجاوز الأبعاد الأخلاقية القانونية، للفعل الإسرائيلي، الذي يواجه «تسونامي» دولياً بعد عملية الاغتيال الفاشلة.
لقد أثبت نتنياهو أن حكومته الفاشية، لا تبدي ولو الحدّ الأدنى من الاهتمام بالرهائن، ولحركة الشارع الإسرائيلي، وأنه يواصل أوهامه لتحقيق أهداف موهومية، فشل بعد سنتين من تحقيقها.
يخرج شعب غزّة، تحت القصف، ليعلن أنه باقٍ على أرضه، وأنه يرفض سياسة التهجير والاقتلاع، ويصرّ معظم سكّان غزة على البقاء في أماكنهم، رافضين التحذيرات الإسرائيلية بضرورة إخلائها.
والسؤال هو: هل تؤدي العملية الفاشلة الى وقف المفاوضات؟ أرجّح أنّ المقاومة ستواصل إبداء استعدادها للتفاوض، ولكن محاولة الاغتيال تمنحها الدافع للتمسّك بشروطها لوقف حرب الإبادة الجماعية، وانسحاب جيش الاحتلال، والسماح بتدفّق المساعدات.
وفي ضوء ما وقع، فإن من المتوقّع أن يتراجع دور الوسيطين العربيين، مصر وقطر، لصالح بقاء «الوساطة» الأميركية، التي عليها إن كانت تريد النجاح، مغادرة موقع الانحياز مع دولة الاحتلال وتبادل الأدوار، والخداع معها.