أذكر أنه، في نهايات سبعينيات القرن الماضي، سمحت إسرائيل للاجئين الفلسطينيين، من ساكني البيوت البسيطة بالمخيمات الثمانية في قطاع غزة، بأن يقوموا بهدم تلك البيوت وتحويلها إلى عمارات سكنية، وقد منعت ذلك منذ أن تمّت إقامة تلك المخيمات، وظلت عائلة أبي تسكن في بيت ممتد أرضاً، أي أنه كان واسعاً بشكل أفقي وليس عمودياً، ما جعلهم يواجهون مشاكل كثيرة في السكن فيه، وقرروا بيعه والانتقال إلى مكان آخر على أطراف مدينة خان يونس، حيث كان يسمح لمواطني المدينة - أي سكانها الأصليين - ببناء بيوت من عدة طوابق على ألا تتجاوز تلك الطوابق الأربعة طوابق بذريعة أمنية.
ظل الحال على ما هو عليه حتى بدأت قبضة الاحتلال ترتخي عن القطاع، وبدأنا نرى ظاهرة العمارات العالية المتعددة الطوابق، وحيث إن أقلها يتكون من ستة طوابق، ولشدة فرحة سكان القطاع بتلك البنايات الشاهقة الارتفاع فقد أطلق عليها مسمى البرج، فكل عمارة تصل إلى ستة طوابق يتم إطلاق اسم جميل عليها يعلو مدخلها بخط عربي جميل، وعلى بلاطة من الرخام، مثل برج الحرية وبرج الحياة، وغيرها من الأسماء، إضافة إلى اعتزاز الغزيين بأسماء عائلاتهم وأصحاب المشاريع، فأطلقوا أسماء العائلات على بعض الأبراج ومنها اسم برج مشتهى، وحيث إن عائلة مشتهى من العائلات الغزية الأصلية في المدينة، والتي تشتهر بالثراء ويعمل رجالها في الأعمال التجارية المختلفة.
في أولى الحروب، أو في أول عدوان على غزة في العام 2008 ومطلع العام 2009، بدأت إسرائيل تدرك أن قمة خسائر الفلسطينيين في غزة تتركز في هدم وقصف الأبراج السكنية، التي أصبحت تحتوي على شقق سكنية تضم عشرات العائلات الصغيرة الناشئة الحديثة الزواج، والتي جمعت كل ما تملك لشراء شقة فيها، إضافة إلى أن هذه الأبراج أصبحت تضم مشاريع تجارية صغيرة، ومنها المحال التجارية في الطوابق السفلية، والشركات الصغيرة التي بدأت تخطو أولى خطواتها في طريق إنعاش الاقتصاد الغزي، إضافة إلى أن معظم الأبراج الشاهقة أصبحت مقراً لوكالات أنباء عالمية وكذلك لمحطات إذاعية محلية اشتهرت بين الغزيين، ومنها محطات محايدة تتكلم بلسان حال الإنسان الغزي دون تطرف أو حزبية.
قبل أيام قليلة، أقدم الاحتلال على تدمير برج مشتهى أكبر أبراج مدينة غزة بشكل كامل، وكان أقدم على قصفه جزئياً في بداية حرب الإبادة، وبهذه الطريقة أو بهذا النهج الذي عاد إليه الاحتلال يكون قد استخدام دلالة رمزية أو أنه أوصل رسالة مهمة للغزيين الضعفاء المنهكين، خاصة الفارين من شمال وشرق المدينة، والفارين والمتجمعين من محافظة شمال غزة، بعد أن تم مسحها، متمثلة بمناطق بيت لاهيا وبيت حانون، وهذه الرسالة التي يريد إيصالها العدو المتغطرس، الماضي في خططه كثور هائج قد أدخل عنوة إلى محل من الخزف والتحف، أنه لا شيء بعيد عن يده، وأنه ماض قدماً في مخططه، لأن تدمير مثل هذا البرج يعني أن يلقي بآلاف السكان الأصليين والنازحين الذين لجؤوا إليه، رغم دماره الجزئي، على قارعة الطريق، خاصة أنه قد وجّه إنذاراً بالإخلاء لمدة قصيرة لم تسمح لهم بحمل متاعهم، ما دعا الناس لأن تلقي بملابسها ومتاعها القليل من الشرفات والنوافذ، مع ملاحظة أن البرج تحيط به عشرات الخيام التي أقيمت حوله، والتي تم إخلاؤها على عجل، وسجل قاطنوها على أنهم قد أصبحوا بالعراء وبلا مأوى، وبلا خطة قادمة سوى النزوح نحو الجنوب والوسط، خاصة أن مناطق وسط وغرب مدينة غزة تعج بالنازحين والسكان الأصليين، الذين يتشبثون بآخر أمل، وهو أن منطقة غرب المدينة قد تظل منطقة آمنة على نحو ما، ولمدة ما، لا يريدون أن يفكروا لمجرد التفكير بالنزوح عنها؛ لأن النزوح هو موت آخر، وهدم الأبراج آخر معاقل اللجوء البائس هو صورة أخرى من صور التغطرس والهمجية وانعدام الإنسانية التي يقف كل العالم متفرجاً عليها.