تاريخ النشر: 16 نيسان 2024


آراء
لماذا لم تتورط روسيا في حرب غزة؟
الكاتب: عمرو حمزاوي

رتبت حروب الولايات المتحدة الفاشلة في أفغانستان والعراق، مضافاً إليها الاكتفاء الذاتي فيما خص موارد الطاقة أميركياً، تبلور توافق داخل نخبة الحكم في واشنطن بشقيها الديمقراطي والجمهوري خلال العقد الماضي باتجاه الحد التدريجي من الوجود العسكري والاستثمار السياسي في منطقة الشرق الأوسط.
في المقابل، كانت عوامل التراجع التدريجي للدور الأميركي وفراغات القوة الناجمة عنه وتصدع مؤسسات الدولة الوطنية في سورية وليبيا والسودان تمكن روسيا من العودة إلى المنطقة بعد أن غابت عنها في أعقاب انهيار الاتحاد السوفييتي بداية تسعينيات القرن العشرين وفي ظل عشرية الهيمنة الأميركية الممتدة بين حرب تحرير الكويت ١٩٩١ وهجمات الحادي عشر من أيلول ٢٠٠١. 
عادت روسيا بعد أن تورطت الولايات المتحدة في غزوين كارثيين لأفغانستان والعراق، واستنزفا قدرات واشنطن العسكرية والسياسية، وواجهت تداعيات بالغة السلبية على صورتها في عموم العالم العربي والإسلامي.
•  •  •
قبل نشوب الحروب الروسية - الأوكرانية وحرب غزة، مكن التراجع الأميركي روسيا من توسيع مجالات فعلها الإقليمي في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لتتجاوز العلاقة الخاصة مع إيران والتحالف مع سورية بمضامينه العسكرية والأمنية إلى الانفتاح على تعاون اقتصادي وتجاري وتصدير للسلاح وعروض لتصدير تكنولوجيا الطاقة النووية باتجاه مصر، ودول الخليج، والعراق، والجزائر. بل إن روسيا دعمت عودتها إلى الظهور كقوة كبيرة في المنطقة من خلال تدخلها العسكري بالوكالة (ميليشيات فاغنر) في بعض الحروب والصراعات المشتعلة إن في ليبيا منذ سنوات أو في السودان منذ ٢٠٢٣.
بينما رحب أعداء الولايات المتحدة كإيران وسورية باتساع دور روسيا بغية الحد من الضغوط الأميركية فيما خص المشروع النووي للأولى وفيما خص إعادة دمج الثانية في المنظومة العربية، تريد الدول العربية الأخرى ألا تقايض علاقاتها التاريخية مع الولايات المتحدة بالعلاقات المتطورة مع روسيا، ولا تريد أيضاً أن يُضغط عليهم للاختيار بين القوة العظمى التي ما زالت تحتفظ بالوجود العسكري الأكبر في المنطقة وهي الولايات المتحدة وبين قوة عظمى لها مواطئ قدم عسكرية وأمنية تقليدية ولا تمانع في تصدير السلاح وتكنولوجيا الطاقة لسد فجوات في الأمن الشامل لدول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وهي روسيا.
•  •  •
خلال السنوات الماضية، نجحت حكومة الرئيس فلاديمير بوتين في استغلال النتائج الكارثية لتقلبات السياسة الأميركية منذ 2001، من تدخلات عسكرية ورغبة في الهيمنة المنفردة على الشرق الأوسط إلى التردد الاستراتيجي والتراجع عن التعهدات الأمنية المقدمة للحلفاء الإقليميين والانسحاب العسكري في أعقاب ٢٠١١، لكي تعيد صياغة أدوارها في المنطقة فيما وراء موضع نفوذها التقليدي في إيران وسورية.
قدمت موسكو نفسها للشرق الأوسط كقوة استقرار تبحث عن التعاون العسكري والأمني والاقتصادي والتجاري مع جميع حكومات المنطقة دون أن تخير العرب والشرق أوسطيين بينها وبين تحالفاتهم القائمة مع الولايات المتحدة الأميركية. 
تركت موسكو واشنطن تضع القيود على صادرات السلاح للمنطقة، وعرضت هي سلاحها دون شروط.
وظف صناع القرار في الرئاسة الروسية وفي الأجهزة الدبلوماسية حالة الغموض التي صنعتها تقلبات السياسة الأميركية فيما خص أمن الشرق الأوسط، وحاولوا هم تصدير صورة جديدة لروسيا كقوة عظمى قادرة على التدخل العسكري والأمني المباشر للدفاع عن حلفائها (سورية مثالاً)، وتستطيع أيضاً التأثير على تطورات ونتائج الصراعات الدائرة في المنطقة (ليبيا مثالاً)، ولا تعارض الحلول الدبلوماسية لإنهائها كما تفعل مع إيران وتركيا في ما يتعلق بسورية، ومع مصر والإمارات وتركيا وفرنسا فيما خص ليبيا. 
كما استثمرت الحكومة الروسية في أدوات جديدة لصناعة الصورة الإيجابية والترويج لها، أبرزها القنوات التليفزيونية الناطقة باللغة العربية.
عملت روسيا على مد شبكات تصدير السلاح والتعاون الأمني والاقتصادي والتجاري مع عموم الدول الفاعلة في الشرق الأوسط، بحيث لم يمنع دورها في سورية من صياغة علاقة استراتيجية مع إسرائيل ولم يمنعها القرب من إسرائيل من الحفاظ على روابطها القوية مع إيران على الرغم من العداء المستمر والمتصاعد بين تل أبيب وطهران. 
كذلك لم تمنع علاقات التعاون والتنسيق مع إسرائيل وإيران موسكو من أن تصدر السلاح إلى السعودية والإمارات ومصر وتركيا، وأن ترفع معدلات التعاون معها جميعاً ومع الجزائر في شمال إفريقيا. 
بل نجح صناع القرار الروس في تطوير تحالفات مصلحة مع حكومات الشرق الأوسط فيما خص أسعار الطاقة العالمية التي تريد موسكو والعواصم الخليجية الحفاظ على ارتفاعها الراهن دعماً لموازناتها العامة، ومزجوا بين ذلك وبين الاتفاق مع مصر والجزائر على بناء مفاعلات نووية بتمويل وتكنولوجيا من روسيا.
•  •  •
تأسيسا على ذلك، يمكن القول إن الهدف الاستراتيجي الواضح للأدوار الروسية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا هو عدم السماح للولايات المتحدة الأميركية بالتعامل مع المنطقة كالقوة المهيمنة الوحيدة. والهدف الثاني هو الضغط باتجاه تبلور نظام أمني جديد يرث الانفرادية الأميركية وتشارك في صياغته القوى العظمى كلها، أي روسيا والصين بجانب الولايات المتحدة الأميركية وبجانب الأطراف الإقليمية المؤثرة.
لذلك تقدم روسيا نفسها كقوة عالمية بديلة لا تتقلب سياساتها بتغير الإدارات وتستطيع التعاون العسكري والأمني والتنسيق فيما خص أسعار الطاقة بعيداً عن خطوط الصراع التقليدية بين إسرائيل وإيران وبين الأخيرة ودول الخليج وبين تركيا والعديد من الأطراف العربية.
لذا لم يكن غريباً أن تصطف إيران وسورية مع روسيا وأن ترفضا إدانة العدوان الروسي على أوكرانيا وتمتنعا عن تطبيق العقوبات الغربية. 
غير أن الصدمة الأميركية جاءت مع ابتعاد أصدقاء واشنطن والغرب في الشرق الأوسط عن الإدانة الصريحة لروسيا وعن تطبيق العقوبات. 
حكومات السعودية والإمارات ومصر وتركيا، بل حكومة حليف واشنطن الأول في المنطقة، إسرائيل، جميعها رفضت تطبيق العقوبات وأبقت على تعاونها وتنسيقها مع موسكو دون تغيير. 
بل إن حكومات دول مجلس التعاون الخليجي رفضت ضغوط إدارة بايدن لرفع معدلات إنتاجها من النفط والغاز الطبيعي لكي تنخفض الأسعار الحالية للطاقة، ومكنت دول الخليج بذلك روسيا من الحفاظ على حصيلتها العالية من صادرات الطاقة.
•  •  •
حصدت روسيا، إذاً، بعضاً من ثمار تحالفات المصلحة مع حكومات الشرق الأوسط وثمار سياساتها البراجماتية التي لم تضع شروطاً على التعاون مع الجميع وعملت على تقديم صورة جديدة لروسيا قوية وقادرة على التدخل العسكري وتصدير السلاح والتكنولوجيا وتقديم التعهدات الأمنية، صورة جديدة تستعيد شيئاً من ذاكرة الحضور السوفييتي المؤثر في شرق أوسط النصف الثاني من القرن العشرين وتضع روسيا اليوم على مسرح الأحداث الإقليمية كقوة عظمى تؤثر في مجريات الأمور في إيران وسورية وترفض التورط في حرب غزة بعيداً عن بعض الجهود الدبلوماسية لإقرار وقف إطلاق النار في مجلس الأمن وبعض محاولات التنسيق بين الفصائل الفلسطينية.