تاريخ النشر: 26 تشرين الثاني 2025

غسان زقطان في "شومان": قصائد كأنها ألبوم عائلي يحاول الشاعر حمايته من الغبار!

 

كتبت بديعة زيدان:

 

"الشعر محاولة لترميم ما تهشم، ومحاولة لحماية الأسماء والظلال من المحو العام".. بهذه الكلمات لخص الشاعر الفلسطيني غسان زقطان رؤيته للكتابة، خلال أمسية حوارية وشعرية استضافتها مؤسسة عبد الحميد شومان، في العاصمة الأردنية عمّان، مساء أول من أمس، وأدارها الشاعر زهير أبو شايب، وسط حضور لافت للمثقفين والمهتمين.
في تقديمه للأمسية، وضع الشاعر أبو شايب الحضور أمام مفاتيح تجربة زقطان، مشيراً إلى تحولاته الجذرية في القصيدة الفلسطينية، مستهلاً بتقديم استثنائي، وواصفاً التجربة بأنها علامة فارقة في المشهد الشعري الفلسطيني والعربي، ومشيراً إلى أنه استطاع أن يخرج بالقصيدة الفلسطينية من "منطق الجوقة" و"الهتاف العالي"، الذي ميّز مرحلة المقاومة المباشرة، إلى منطقة "الهمس" و"التفاصيل اليومية".
وقال أبو شايب في مداخلته: غسان زقطان لم يذهب إلى شعارات المرحلة الكبرى، بل انحاز إلى الهشاشة الإنسانية.. نقل القصيدة من الأفكار الكلية إلى التفاصيل الصغيرة التي تصنع الحياة.. إنه حارس الذاكرة الشخصية، يكتب وكأنه يرمّم صورة قديمة، لغته مقتصدة، لكنها مشحونة بطاقة هائلة من الصور والظلال.
من جانبه، تحدث زقطان خلال الحوارية عن فلسفته في الكتابة، وعلاقته بالذاكرة والمكان، مُتطرقاً إلى دور الشاعر في الزمن الصعب، ومؤكداً أن الشعر ليس مجرد رد فعل على الحدث، بل محاولة للحفاظ على الهوية من التفتت، هو الذي كان أشار في أكثر من مناسبة: لا أكتب لأستعيد الماضي كما كان، فهذا مستحيل.. أكتب لأمنع الأشياء من الزوال التام.. الكتابة هي ذاكرة بديلة، وهي المكان الوحيد الذي يمكن للغائبين أن يعودوا إليه دون أن يسألهم أحد: لماذا عدتم؟
وتحدث زقطان باستفاضة عن "جيل الثمانينيات" الذي ينتمي إليه، واصفاً إياه بـ"جيل المفصل"، وموضحاً أن جيله وجد نفسه في منطقة حرجة بين "الآباء الكبار" (درويش، والقاسم، وزياد)، وبين التحولات السياسية الكبرى (الخروج من بيروت)، مشيراً إلى أن جيله لم يكتب "ضد" الرواد، لكنه "لم يرثْهم" فنياً، إنّما انشغل بتفكيك البلاغة العالية والبحث عن صوت "فردي" وسط الضجيج الجماعي، وهو ما ميز تجربتهم بالتمرد على "الشكل السائد"، كما استحضر تجربة "بيروت" في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، ليس كمدينة فقط، بل كـ"مختبر ثقافي وحضاري".
وفي الجزء الثاني من الأمسية، قرأ زقطان مختارات من قصائده القديمة والجديدة، التي تنوعت بين قصائد النثر والتفعيلة، وتميزت بلغتها الصافية وصورها المباغتة.
طاف الشاعر بالحضور في عوالم رام الله، وبيروت، ومخيمات اللجوء، مستحضراً صور الأصدقاء الراحلين، وتفاصيل الحياة اليومية المعلّقة بين الحلم والواقع، بحيث تميزت القراءات بالهدوء الذي يشبه العاصفة المكتومة، حيث تجلى أسلوب زقطان المعروف في الاقتصاد اللغوي وتكثيف الصورة، تاركاً للمتلقي مساحة واسعة للتأويل والشعور.
ومن أجواء القصائد التي ألقاها، برزت ثيمات: "العودة"، و"الانتظار"، و"الأشباح" التي تسكن الذاكرة، حيث بدت القصائد وكأنها ألبوم صور عائلي يحاول الشاعر حمايته من الغبار.
وعرّفت مؤسسة شومان بزقطان بالقول: يعيش الحياة كما ينبغي لشاعر، ويعيش الشعر كما لو كان يساكنه.. ليس شعراً منبرياً، فعباراته تحتاج إلى مختبر لتفكيك حساسياتها العديدة، فهو ابن اليومي والعادي الذي يرتبط معه بعلاقات ماضية ممتدة مع مفردات القرية، وهو يقيم هذه العلاقات بتوازن مع مدنية حديثة لم تستطع أن تطغى على ريفيته الفائضة.. فلسطيني اختبر المنفى كما لو كان ملاذاً أخيراً للروح، وجرّب العودة كما لو كانت انتصاراً لا يعدله شيء، وفي الحالتين ظل "الثلم" موجوداً، فلا المنفى بقي، ولا العودة نضجت، لكن، وفي كل مكان طرقه كانت الكتابة زاده، والشعر رفيقه.
هو غسان زقطان، الذي يقول في أحد حواراته: إن الشعر جاءه من دون قصد أو تخطيط، وإنه ولد من تداخل حياته اليومية مع الناس والأمكنة، وإن المنفى شكّل وعيه، لكنه يعترف بأن العودة كانت ناقصة لوطن لم يكتمل، وأن الحنين الحقيقي كان لدى جيل الآباء، أما هو فجاء إلى فلسطين محمّلاً بخبرة المنافي، يبحث عن وطنه من خلال أدوات هذا المنفى.
لا يعترف بتضادية الأشكال الشعرية، فهو يرى قصيدة التفعيلة والنثر تتجاوران في تجربته كتجارب نابعة من تطور اللغة والذائقة، وهو لا يرى "الروّاد" آباءً مؤسسين له، بل يعتبر أبناء جيله آباء تجربته الشعرية، ويرى أن التراث الشعري العربي القديم يظل مصدراً مهمّاً للحداثة.