ينهي اعتماد واشنطن على بكين

واشنطن - بلومبيرغ: عاد ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان من العاصمة الأميركية حاملاً أجندة ثقيلة تمتد من الدفاع إلى الطاقة والذكاء الاصطناعي. غير أن العنوان الأبرز في الزيارة كان هذه المرة "المعادن الحرجة"، بعد إعلان إطار استراتيجي جديد للتعاون بين الولايات المتحدة والسعودية في اليورانيوم والمعادن النادرة وتمويل مصفاة جديدة لعناصر الأرض النادرة في المملكة، في خطوة يصفها خبراء في واشنطن بأنها إعادة هندسة لسلاسل الإمداد العالمية بعيداً عن الصين.
وبموجب "الإطار الاستراتيجي للتعاون في المعادن"، يتفق الجانبان على تعزيز الاستثمارات المتبادلة في سلاسل إمداد اليورانيوم والمعادن الأساسية والمغناطيسات الدائمة، على أن يشكل هذا الإطار "حجر الزاوية" في الشراكة الاستراتيجية الأوسع بين البلدين، وفق تحليل صادر عن مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS) في واشنطن.
وأعلنت وزارة الدفاع الأميركية – التي أعلن الرئيس دونالد ترمب تغيير اسمها إلى "وزارة الحرب" في خطوة لا تزال بانتظار موافقة الكونغرس – أنها ستموّل بالكامل حصة أميركية تبلغ 49% في مشروع مصفاة جديدة لعناصر الأرض النادرة تتشارك فيها مع شركة "إم بي ماتيريالز" الأميركية وعملاق التعدين السعودي "معادن".
وتتماهى هذه الخطوة مع مسار أوسع كشفته مصادر أميركية وسعودية، إذ حصلت واشنطن خلال الزيارة على تعهدات استثمارية سعودية تصل إلى تريليون دولار في قطاعات تمتد من الطاقة النووية إلى الصناعات الدفاعية، فيما يشكل قطاع المعادن الحرجة أحد أعمدة هذه الحزمة الاستثمارية.
تقدّر وزارة الصناعة والثروة المعدنية السعودية أن مكمن "جبل صايد"، الواقع على بعد نحو 350 كيلومتراً شمال شرقي جدة، يضم رابع أكبر احتياطي من عناصر الأرض النادرة في العالم من حيث القيمة.
وتشير الأرقام التي استند إليها تقرير "سي إس آي سي" إلى نحو 552 ألف طن من العناصر النادرة الثقيلة مثل الديسبروسيوم والتيربيوم، إضافة إلى 355 ألف طن من العناصر النادرة الخفيفة مثل النيوديميوم والبراسيوديميوم.
تُظهر خريطة جيولوجية منشورة من شركة "معادن" أن مكامن أخرى في مناطق جغرافيّة مختلفة – من "جبل تولة" و"غرية" في الشمال إلى "أم البرك" في الجنوب – يمكن أن تعزز هذه الاحتياطيات مع استمرار أعمال الاستكشاف.
هذه الأرقام تكتسب أهمية مضاعفة من منظور واشنطن؛ فالولايات المتحدة تنتج في الأساس العناصر النادرة الخفيفة وتعتمد إلى حد كبير على الواردات لتأمين العناصر النادرة الثقيلة المستخدمة في أحدث منظوماتها العسكرية، فضلاً عن تقنيات مدنية مثل أشباه الموصلات للسيارات وأجهزة التصوير بالرنين المغناطيسي.
ومع تشديد بكين القيود على صادرات هذه العناصر خلال العام الماضي، ارتفعت المخاوف في واشنطن من تحوّل الاعتماد على الصين إلى نقطة ضغط استراتيجي في أي أزمة مقبلة.
هذا الترتيب يمنح الرياض موقعاً محورياً في سوق معالجة عناصر الأرض النادرة، إذ سيوفر واحدة من أوائل المنشآت خارج شرق آسيا القادرة على إنتاج أكاسيد نادرة خفيفة وثقيلة على حد سواء على نطاق تجاري.
ويُتوقع أن يفتح الباب أمام استثمارات مشتركة لاحقة في صناعة المغناطيسات الدائمة داخل المملكة، وهي الحلقة العليا في سلسلة القيمة المستخدمة في المحركات الكهربائية وتوربينات الرياح والمعدّات العسكرية المتطورة.
يمثل قطاع التعدين أحد أعمدة استراتيجية التنويع الاقتصادي في "رؤية 2030". فخلال السنوات القليلة الماضية، قفز عدد رخص الاستكشاف في المملكة من 224 رخصة العام 2015 إلى أكثر من 800 رخصة في 2023، بينما ارتفعت التقديرات الرسمية لقيمة الموارد المعدنية غير المستغلة من نحو 1.3 تريليون دولار إلى 2.5 تريليون دولار بحلول 2024، وفق بيانات حكومية نقلتها وسائل إعلام دولية.
هذه العوامل مجتمعة تجعل من المملكة مرشّحاً طبيعياً لتطوير مركز إقليمي لمعالجة المعادن الحرجة لا يخدم احتياجاتها الداخلية فحسب، بل يستقبل أيضاً الخامات القادمة من دول إفريقية مثل ملاوي وناميبيا وجنوب أفريقيا وأوغندا، التي شهدت طفرة في الاستثمارات في عناصر الأرض النادرة خلال العام الماضي.
وبهذا، تضع الرياض نفسها حلقة وصل أساسية بين موارد الجنوب العالمي وطلب الصناعات المتقدمة في الغرب وآسيا.
لا يتوقف البعد الاستراتيجي لاتفاق المعادن عند حدود العناصر النادرة. فالولايات المتحدة والسعودية أعلنتا بالتوازي إكمال المفاوضات حول تعاون في الطاقة النووية السلمية، يمهّد لاتفاق من نوع "123" يضبط أطر التعاون التجاري والتقني ويلتزم بمعايير عدم الانتشار النووي. وبحسب تحليل "CSIS"، تتميز العديد من مكامن العناصر النادرة في المملكة، وعلى رأسها "جبل صايد"، بتجاورها مع احتياطيات مهمة من اليورانيوم تُقدّر بنحو 31 ألف طن، ما يتيح للسعودية على المدى الطويل دخول سلسلة الوقود النووي وتزويد محطات الطاقة محلياً وربما في الأسواق الدولية.
منذ اللقاء التاريخي بين الرئيس فرانكلين روزفلت والملك عبد العزيز العام 1945، تشكل التحالف الأميركي – السعودي على قاعدة غير مكتوبة قوامها النفط مقابل الحماية.
وعلى مدى عقود، لعبت شركات النفط الأميركية دوراً محورياً في تطوير الصناعة النفطية السعودية.
اليوم، من دون أن يفقد النفط مركزية دوره، تدفع التحولات التكنولوجية والجيوسياسية البلدين إلى إعادة تعريف معادلة الشراكة. فالمعادن الحرجة – من عناصر الأرض النادرة إلى النيكل والليثيوم والنحاس – باتت تشكّل "نفط العصر الرقمي" وفي هذا السياق، تبدو الرياض وواشنطن بصدد بناء مسار يربط بين الموارد السعودية ورأس المال والتقنية الأميركية، مع مشاركة متوقعة لدول حليفة في أوروبا وآسيا.