لا يليق بالفلسطيني أن يتباكى، أو أن يجترّ اليأس بعد أن دفع كل هذه الأثمان الباهظة خلال مسيرته النضالية من أجل الحرية والوطن. نعم يمكن ملاحظة المفارقات الصعبة، وهي على كل حال في إطار التوقّعات.
مجلس الأمن الدولي غاب تماماً بإرادة أميركية عن وقف حرب الإبادة والتجويع والحصار التي استمرت لسنتين على قطاع غزة، ولكنه حضر بالإرادة الأميركية، حين عجزت آلة الحرب عن تحقيق الأهداف.
قرار مجلس الأمن رقم 2803، الذي صدر عنه بأغلبية 13 صوتاً وامتناع الصين وروسيا، ما كان له أن يستجيب بمعظم نقاطه لطموحات الفلسطينيين، ولكنه، أيضاً، ليس تماماً في مصلحة دولة الاحتلال أو كما أراد بنيامين نتنياهو المطلوب لـ»الجنائية الدولية».
ثمة قدر من التوازن، مع ميل لصالح الدولة العبرية، وفق نصوص القرار، ولكن لا بدّ من ملاحظة أن الصياغة الأميركية قد أخذت بعين الاعتبار مواقف المجموعة العربية والإسلامية، ما يعني أن أميركا، لم تعد قادرة أو مستعدّة لتجاهل الدور العربي والإسلامي في منظومة السياسات المتعلّقة بالشرق الأوسط.
نعم نصّ القرار ينطوي على انتداب أو وصاية أميركية على القطاع، محدودة، لسنتين قادمتين، قبل أن يخلي دونالد ترامب مكانه في البيت الأبيض، ولكن هل يمكن لأي انتداب، أو حتى احتلال أن ينزع عن غزّة هويّتها الفلسطينية، بعد أن تكرّست في عمق الوعي الدولي على نحوٍ غير مسبوق؟
غزّة، التي تعرّضت لغزوات عدوانية وبربرية كثيرة عبر التاريخ، بقيت مكانها، وذهب الغزاة، وهي ستبقى مكانها بحجارتها، وناسها، وهويّتها وكرامتها الوطنية.
ولكن، أيضاً، ألا يلاحظ المرء، أن دولة الاحتلال هي الاخرى تحت الوصاية الأميركية، التي حوّلت نتنياهو وحكومته الفاشية إلى مجرّد ولاية عليها أن تراجع الوصيّ، حين تتخذ أي قرار ذي أهمية؟
هذه الوصاية لا تستند فقط إلى جملة من القرائن السياسية العملية، بل انها، أيضاً، تستند إلى اعترافات إسرائيلية يصرّح بها العديد من المسؤولين السياسيين والأمنيين، وتجعل سموتريتش يكرّر التأكيد على أن كيانه الكولونيالي مستقل، وتجعل نتنياهو هو الآخر، يتحدّث وكأنه متهم، بأن حكومته تتخذ القرارات التي تتناسب مع مصلحة كيانه.
المهم أن القرار، يضع حداً لمخططات التهجير القسري، ويضع حدّا، لاستخدام سلاح التجويع، ويفتح مجالاً أمام إعادة إعمار غزّة، بسواعد الغزيّين.
صحيح أن القرار يتجاهل الإرادة الفلسطينية سواء السلطة الوطنية الفلسطينية أو المقاومة، ويهمّش دورهما، ويرهن هذا الدور بغياب «حماس» عن الحكم، وربما تحييد سلاح المقاومة بشكل أو بآخر، ويربط دور السلطة الوطنية بإصلاحات غامضة، لكن الولايات المتحدة مضطرّة أن تقبل بصيغة تشير إلى تقرير المصير للفلسطينيين.
قد لا يعني هذا النص، أن مآلات الأوضاع ستتجه نحو دولة فلسطينية بشكل قاطع، ولكنها تفتح المجال أمام مسار سياسي ترفضه دولة الاحتلال كلها.
ثمة امتعاض، من قبل وزراء في «الليكود»، وبالتأكيد لدى سموتريتش وبن غفير، اللذين التزما الصمت بتوجيهات من نتنياهو الذي انفرد بالترحيب بالقرار والإشادة بترامب.
نتنياهو ليس لديه خيار في أن يسجل اعتراضاً أو رفضاً لقرار تقف خلفه أميركا، ورئيسها ترامب شخصياً، حيث أنها الحليف الوحيد المتبقي لدولة الاحتلال، ومن دونه، ستعيش أسوأ كوابيسها.
على أن التوصيف الدقيق جاء على لسان أفيغدور ليبرمان زعيم حزب «إسرائيل بيتنا» الذي وصف ليلة اتخاذ القرار بأنها نتاج إدارة فاشلة من قبل حكومة إسرائيل، وأن وجه الشرق الأوسط يتغيّر، ولكن ليس صحيحاً أنه لصالحها.
يضيف ليبرمان، في الإشارة للتغيّرات في الشرق الأوسط أن تركيا والعربية السعودية حصلتا على طائرات «ف-35»، وكذلك حصلت العربية السعودية على برنامج نووي، وأن القرار جلب دولة فلسطينية وهو ما يعدّ تصفية للدولة العبرية على حدّ قوله.
في هذا السياق لا بد من ملاحظة التحوّل في السياسة الأميركية نحو من يملكون القوة والثروة، فلقد أعلن أن العربية السعودية حليفاً رئيسياً من خارج «حلف الناتو»، ما يهدّد المكانة والدور الوظيفي لدولة الاحتلال.
«طوفان الأقصى» أسقط مزاعم الجيش الذي لا يقهر، وأطاح بهيبته التي تفاخر بها الإسرائيليون، وكانوا يعتقدون أنه يتفوق على كل من في المنطقة، وإذ به يفشل في تحقيق الانتصار على المقاومة الفلسطينية.
إذا كانت دولة الاحتلال تفاخر بتفوّقها الجوّي الحربي، فإن تزويد العربية السعودية وتركيا، بطائرات «ف-35» قد كسر مزاعم التفوق، حتى لو أن أحداً لا يتوقّع نشوب حرب طرفاها دولة الاحتلال والعربية السعودية أو تركيا، ولكن من قال إن السياسة ثابتة.
من حق فصائل المقاومة في غزّة أن ترفض القرار 2803، وأن تحاول تعديل أو تحسين بعض فقراته، من خلال البعد العملي وبما يؤكّد حق الشعب الفلسطيني في المقاومة، استناداً إلى قرارات الأمم المتحدة التي اتخذت القرار في مجلس الأمن.
ولكن فصائل المقاومة في غزّة، ليست هي الأخرى أمام خيارات تمكّنها من الرفض والمقاومة وإفشال القرار، ذلك أن البديل هو عودة الحرب الإبادية، وهذه المرّة، أميركا في الواجهة، وهذه المرة، أيضاً، لا عرب ولا مسلمون، سيصفّقون لها.
مآلات الأوضاع برأيي مرهونة بأمرين: الأوّل، تغيير في السياسة الأميركية، بعد الانتخابات المقبلة، وهذا وارد، والثاني، أن يبادر الفلسطينيون لاستعادة وحدتهم الوطنية، وإصلاح النظام السياسي بشروط فلسطينية، وليس عبر إملاءات غامضة لا نهاية لها.