تاريخ النشر: 20 تشرين الثاني 2025


دفاتر الأيام
غزة.. مدينة عمري الأبدية
الكاتب: سما حسن

هكذا كنت أراها، ولا يمكن أن أكون قد بالغت في وصفي لها، فمن الممكن أن تحب المكان إلى درجة أن تنطبع شخصيته على شخصيتك، هل تحدثت عن شخصية المكان، نعم، فالواقع أني كنت اشعر بأنني أتعامل مع إنسان من لحم ودم ومشاعر وليس مكانا من أرض وحجر، وكنت اشعر أيضا أن هناك لغة مشتركة بيننا وحين كنت أضيق بهموم الحياة لم اكن أفعل سوى أن أتجول في شوارعها الضيقة خصوصا لكي تربت على قلبي وتمسح على صدري، وكنت اشعر أنها تبادلني الشعور حتى حين يسقط المطر فتلك لغة أفهمها ولذلك فقد انسحب طابع المدينة على شخصيتي حين كبرت وكلما مر بي العمر أوغلت في ترسيخ بساطتها وبراءتها بداخلي.
تخيلوا أنني صرت لا أرى العالم سوى غزة، ولم يكن لدي حلم مثل الآخرين بأن أسافر وأجوب العالم، ولم تصدر مني يوما شهقة إعجاب حين أرى على شاشة التلفاز معالم مدينة أخرى أو حتى جمال الطبيعة في بقعة حيث الشجر والماء والجبال وكل الجمال الذي يصفه الزائرون، لم تتق نفسي على الإطلاق لتلك الأماكن حتى حين يغريني أولادي بزيارة مكان ما عندما استطعت الخروج من حصار غزة والسفر إلى مصر ثم تركيا وقد حدث ذلك قبل الحرب بعام، لم يكن قلبي يتوقف في مكان، ولم تكن روحي تتهافت على أرض ولا سماء ولم تمتد يدي لكي تتلمس جذع شجرة ولا غصنا ولا حتى وردة حمراء نضرة.
كنت أرى الجمال هناك حيث تركت مدينتي الصغيرة البسيطة البريئة التي لا تريد أن تتغير، ولا تريد أن يغير توحش العالم وجهها وكأنها تلك الغانية التي استغنت بجمالها عن كل أدوات الزينة فتركت المدينة خصلة جديدة في شخصيتي أنني لم أكن احب مساحيق التجميل ولا أجيد رسمها فوق وجهي وأكره المناسبات الاجتماعية التي تجبرني على تلطيخ وجهي بالألوان، لأني كنت احبه مغتسلا بالماء البارد مثلما أحب المدينة البريئة التي أراها قريبة من القلب وحنونة وطيبة وطاهرة وتربت بكل إخلاص فوق الجباه المتعبة والوجوه الحزينة.
أحببت غزة كما هي ولم أتخيل يوما أنني سوف أتركها، ولم أتخيل أنها قد تتغير وتصبح ميامي الشرق كما يقولون ولا سنغافورة ولا الريفيرا ولا أي مسمى آخر، وكأني كنت على ثقة أن هذا المكان الضيق لن يراه العالم ولن يطمع فيه، فهي بالكاد ترى على الخريطة وسوف يتركها العالم لأهلها البسطاء المحبين الذين لا تتجاوز أحلامهم سقف أحلامي والذين يرونها أجمل بقاع الأرض مثلما أراها.
كيف يمكن أن تسرق منك مدينتك هكذا، وأي تخطيط جهنمي وشيطاني قد أحيك بها حتى تسلب منك وانت الذي أمضيت عمرا ملاصقا لها وهي تلاصق جلدك وروحك ودمك، ولا تطمع بأكثر من ثمرها وحبات مطرها وسقف فوق ارضها تنام بين جدرانه فترتاح لأنك نمت بلا ضغينة لأحد ولا طامعا بشيء سوى انك تريد يوما جميلا كسابقه.
كيف يخططون وكأن المدينة هي ملكهم وكأن ما عشته فيها من عمر كان سرابا ولا يحق لك الاعتراض وسوف يلقون بك في مهب الريح ويقولون لك، ابدأ من جديد، دون أن يمنحوك عمرا وهم رغم ذلك يضعون أمامك ألف خيار وألف مساومة لكي تفكر لوهلة أن هناك مكانا في العالم اجمل منها وافضل منها واكثر حنوا على قلبك وروحك منها.
اليوم، تكتمل مؤامرة ضد المدينة البريئة التي لم تكتفِ بأن تكون مدينة بل طبعت شخصيتها على شخصية الأبرياء والمسالمين والبسطاء الذين كانت أحلامهم ليست أبعد من ناصية الحارة وليست اكثر من دكان البقالة بحلواه وفاكهته ومساحيق غسيله.
اليوم، انت مكبل اليدين ومطبق الفم وتكتشف انه ليس من الضروري ألا تأكلك الذئاب لأنك نباتيا، لأن الذئاب قد اجتمعت عليك وعلى مدينتك، ولم يلتفت إليك أحد ولم يفكر احد بأن يعرف رأيك وهو يستلب روحك وكأن العالم قد تفرغ تماما لمدينتك، هل تذكرها فجأة أم أنها كانت الجوهرة المدفونة التي أخفاها تاجر جشع لكي يحفر الأرض ويمسك بها بين يديه حين يفلس وتكسد تجارته، إن كانت مدينتي هي آخر دفاتر المفلس فهي جوهرة عمري وحياتي وهذا يكفي.