تاريخ النشر: 04 تشرين الثاني 2025

"هذا الأزرق الذي أضعته" لإسكندر حبش: سيرة الفقد والوجود!

 

كتب يوسف الشايب:

 

تُمثل المختارات الشعرية "هذا الأزرق الذي أضعته" للشاعر الفلسطيني إسكندر حبش، والصادرة قبل رحيله بأيام، عن الاتحاد العام للكتاب والأدباء الفلسطينيين، رحلة مكثفة عبر تجربة شعرية تمتد لنحو أربعين عاماً، فهي ليست مجرد تجميع لقصائد، بل بناء لسيرة ذاتية شعرية، محورها الأساسي "الهاجس الفلسطيني" كما يعيشه ابن الشتات، متجسداً في ثنائيات: الذاكرة والنسيان، الحضور والغياب، والوجود في قلب الفقد.
يضع حبش قارئه مباشرة أمام الإطار الذي يجب أن تُقرأ القصائد من خلاله، وبوضوح استثنائي في مقدمته المعنونة "تلك البلاد"، إذ يعترف بأنه يكتب من موقع الشتات، من "هاجس عيش فلسطين من دون أن نعرفها فعلياً".. هذه المقدمة هي "المفتاح" الذي يفك شيفرات المجموعة بأكملها؛ ففلسطين بالنسبة له ليست مجرد قضية سياسية، إنّما "قضية إنسانيتنا كلنا".
من هنا، يصبح كل "غياب" في القصائد حضور لفلسطين، وكل "مدينة" مفقودة هي يافا واللد وحيفا، وكل "أب" يُستدعى من الموت هو جيل النكبة، بينما تصبح الكتابة نفسها "خيمتنا لغاية الآن"، والشاعر "مخترع الأمل".
تتمحور القصائد حول عدة مضامين رئيسة، جميعها مرتبطة بذلك "المفتاح" الفلسطيني، على رأسها ثيمة "الغياب"، مُتجسّدة في المدن المفقودة، عبر اللازمة المتكررة "حين لن تبقى لي تلك المدن..."، والتي هي ليست مجرد "نوستالجيا" مجردة، بل تجسيد مادي لفكرة "الشتات".
هذه المدن ليست ذكريات، هي إمكانية حياة سُلبت. إنها "أرض عارية" و"بلاد لا تتعب من انتظار رسائل".
وتتمثّل ثيمة "الذاكرة" في مختارات حبش، باستحضار الأب، الرمز الأقوى لجيل النكبة، والرابط المادي بالوطن المسلوب.. الشاعر لا يرثي الأب، إنّما يستحضره كقوة حية: "يستيقظ أبي من موته/ ويعود صوب طفولة/ ليرقص عند قدمي يافا".. هذا الاستحضار محاولة لإعادة كتابة التاريخ، وسؤال الذاكرة: "أما زالت القدس بعيدة يا أبي؟".
الأب رمز التاريخ والشرعية، وكتابات حبش عنه في مختاراته، ليست مجرد استعادة ذات بعد حنيني، بل هو "فعل سحري" ومقاومة، بحيث يستخدم الشعر "لإلغاء الموت" و"عكس مسار النكبة".. إنه يعيد كتابة التاريخ ليجعل الأب (الذي هُجّر) ينتصر على الموت ويعود ليرقص.
أما الفقد فيعبّر عنه عنوان المختارات "هذا الأزرق الذي أضعته"، فـ"الأزرق" رمز لكل ما هو مطلق وجميل وضائع: زرقة سماء فلسطين، وزرقة بحرها، وزرقة الحلم الذي لم يتحقق، إنه "الأزرق" الذي كان صوته، وإضاعته هي جوهر المأساة.
وعبر "الثلج"، يعبر حبش عن المنفى والنسيان، ففي الدلالة الظاهرة هو رمز شتوي للبرودة، أو النقاء، وفي دلالاته الخفية، هو رمز "المنفى" (بيروت، باريس) الذي يعيش فيه.. إنه الغطاء الأبيض البارد الذي يغطي الذاكرة الدافئة (فلسطين).. "النسيان" الذي يهدده.. عندما يكرر "لا شيء أكثر من هذا الثلج"، فإنّه لا يصف الطقس، لكن يصف "الواقع" الوجودي للمنفي المحاط بالبياض البارد للنسيان، وهو يحاول الحفاظ على "الأزرق" الدافئ في داخله.
وترمز "المدن" في دلالاتها الظاهرة إلى الذات المفقودة (يافا، اللد، إلخ)، بينما "المدن" في شعره هي "الذات"، فحين لن تبقى لي تلك المدن" هي مرادف لـ"حين لن أبقى أنا".. المدن هي "إمكانية حياة لم تُعَش".. لذا، الفقد ليس مجرد فقد جغرافي فحسب، هو، أيضاً فقد وجودي، فقد سُرقت منه الحياة التي كان من المفترض أن يعيشها.
وشِعر حبش ليس سياسياً مباشراً، هو شعر "فلسفي" نابع من قضية سياسية، يحفر في ثنائيات الوجود والعدم، والفراغ والامتلاء.. "لا شيء هنا/ سوى الأرض/ التي تهبنا الخوف قبل أن تغادر".. القصائد مليئة بـ"الفراغ" و"اللا شيء"، كأن الشاعر، بعد أن فقد وطنه المادي، يتأمل في الوجود نفسه كشكل من أشكال "اللاشيء".
يتميّز شعر إسكندر حبش، في المختارات هذه، بجماليات صافية وهادئة، بعيداً عن الصراخ والخطابية، متميّزاً بإتقانه لقصيدة النثر، حيث يبني موسيقاه الداخلية من خلال "التكرار" وليس الوزن، فالتكرار هو الأداة الفنية الأبرز.. لازمة "حين لن تبقى لي تلك المدن"، أو لازمة "لماذا هذا الوقت يحفر أخدوده؟"، لا تعمل كترديد صوتي فقط، بل كفواصل تأملية تفصل بين المشاهد، وكأنها تدق على جدار الذاكرة.. هذا التكرار ليس مجرد تنويع، إنه مثل الطرق المستمر على باب مغلق، ما يجعل القصيدة تدور في حلقة مفرغة، تماماً كذاكرة المنفي التي تبدأ وتنتهي عند نفس الجرح.
صور حبش ليست وصفية مباشرة، إنّما هي "تجريد حسي"، فهو، مثلاً، لا يصف "البرتقال"، لكنه يصف "رائحة" تذكر به.. صوره عناصرية (ماء، وثلج، ورمل، وغبار، وحجر)، وغالباً ما تكون سريالية هادئة: "أريد أن أصرخ/ لهذا العنكبوت الذي ينسج/ ضفيرته/ فوق وجهها"، أو "أشم رائحة جسدك الذي أرسلته/ إليّ/ بين عتمة كلمات الرسائل".
هذه التقنية ترفع التجربة من "الواقعي" (فقدان بيت في يافا) إلى "الوجودي" (فقدان الإحساس بالوجود)، بحيث يصبح الوطن ليس تراباً، بل "رائحة"، و"صوتاً"، و"لوناً" مجرداً، ما يجعل الفقد أعمق وأكثر شمولية.
ويستخدم الشاعر رموزاً مثل "لوتشانا" أو "أنكيدو"، ليضع تجربته الذاتية في سياق إنساني وأسطوري أوسع، ما يخرجها من إطارها المحلي الضيق إلى فضاء كوني.. بإدخال شخصيات أجنبية أو أسطورية، يقوم الشاعر بعولمة جرحه، وكأنه يقول إن مأساته (فقدان الوطن) ليست مجرد قضية فلسطينية محلية، بل هي مأساة إنسانية كونية، تماماً كمأساة أنكيدو الذي فقد "الفردوس" (الغابة).
وهناك ألعاب فنية مستمرة في قصائد حبش، عبر أنسنة، أو تشخيص الجماد، أو حتى التشييء، الذي يعبّر عن محو الذات، أو ما يتعلق بالمشهد الساكن، فالعديد من قصائده ليست قصصاً، بل لوحات ثابتة، ومُجمّدة في الزمن.
هذا التجميد المتعمد للزمن فعل "نوستالجي" بامتياز، فالشاعر يوقف الزمن عند لحظة معينة (قبل الكارثة، أو في ذروة انتظارها)، ويرفض السماح لها بالمرور.. إنه يحاول الإمساك بالأبدية في لحظة هاربة.
"هذا الأزرق الذي أضعته"، مختارات شعرية تتميز بصدقها الفلسفي، فهي تقدم صوتاً مختلفاً في المشهد الشعري الفلسطيني، صوت الشتات الذي يعيش "الهاجس" كواقع يومي.. إنه شعر يبتعد عن المقاومة المباشرة والخطابية، ليقدم ما يمكن وصفه بـ"مقاومة الذاكرة ضد العدم".. إنه يثبت أن الوجود الفلسطيني ليس مجرد وجود سياسي، إنّما سؤال وجودي عميق، وأن الكتابة، كما يقول حبش، هي "سؤال أبدي لا يتوقف".
ويندرج شعر إسكندر حبش في هذه المختارات، باعتباره من بين شِعر "ما بعد الكارثة"، فهو لا يكتب عن فعل المقاومة، إنّما عن أثر الهزيمة، مؤكداً أن المقاومة الوحيدة الممكنة في هذا الشعر هي "مقاومة الذاكرة"، لذا نراه يقاتل "النسيان" (الجليد) بـ"الذاكرة" (الأزرق)، ويقاتل "الموت" (غياب الأب) بـ"الكلمة" (استحضاره ليرقص).
بالخلاصة، الشِعر في هذه المختارات للشاعر الفلسطيني إسكندر حبش، ليست محض فعل فنّي إبداعي، بل أداة تغيير سياسي مباشر، وبقاء وجودي، وهو "الخيمة" التي يحتمي بها من "الغبار" و"الثلج" و"اللا شيء".