
كتبت بديعة زيدان:
تأتي المجموعة القصصية "جبل الجليد" للكاتبة الأردنية أماني سليمان داود، والصادرة حديثاً عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت، كعملٍ يفي بعنوانه تماماً، فكما جبل الجليد، لا تُظهر لنا القصص إلا قمة ظاهرة من الألم والصدمات والنقد الاجتماعي، بينما يختبئ الجزء الأعظم من بنيتها، المكونة ممّا وراء النص والسيريالية، تحت سطح الواقع.
تستهل الكاتبة مجموعتها بعتبة نصية تشكل مفتاحاً مركزياً للقراءة: "لسنا سوى انعكاسات في مرايا مهشمة"، فهذا التهشّم ليس مجرد ثيمة، إنّما تقنية سردية تحكم المجموعة، بحيث تتنقل داود ببراعة بين الواقعية القاسية التي ترصد القمع الاجتماعي والصدمة، وبين العوالم الكابوسية للذات، وصولاً إلى حدّ التشكيك في عملية السرد ذاتها.
وتهيمن على "جبل الجليد" ثيمات الصدمة والذاكرة المتسلطة والنقد الاجتماعي اللاذع، فالقصص لا تهادن القارئ، بل تواجهه مباشرة بالهشاشة الإنسانية.
ومن بين انعكاسات هذه الثيمات، تبرز الذاكرة والصدمة النفسية، كخيط ناظم في "رجل الملاريا"، حيث نرى الراوي حبيس "ذاكرة متسلطة" تُعيد إنتاج حدث موت غامض، وهو يكافح أمام طبيبه النفسي بين العقاقير، وتتكرر هذه الصدمة في "قناع" مع امرأة سجينة ذكرى قتل زوجها لطفلهما، وفي "الابن الذي زرع أباه ورشه بالماء" الذي يخلط بين طقس الدفن وطقس الزراعة في حالة "جنون اختياري".
وتقدّم داود عبر النقد الاجتماعي شرائح دقيقة للمجتمع، فغي "رائحة الخبز"، تُهدم أسطورة "رجل الحي المحترم" (أبو فرهود) بحذاء بلاستيكي يكشف تحرشه المستتر، في مشهد ثوري لامرأة تسترد حقها.. وفي "حاجز رمادي"، نرى التمييز الطبقي ورائحة الفقر كوصمة حتى بين الفقراء أنفسهم، من خلال مشهد "البيض المسلوق".
ويتخلق السياسي في رحم الشخصي في "جبل الجليد"، فالحرب ليست خلفية، بل هي جرح حاضر ينزف في نصوص مثل "هرم ماسلو"، الذي يفضح "تطبيع الألم" واختيار "جثث قابلة للنشر"، و"خلل ما" الذي يشير صراحة إلى حرب الإبادة في غزة، ورسائل "أول الحياة.. آخر الموت"، التي ترسم خطاً فاصلاً وموصولاً في آن واحد بين غزة ويافا.
وتتجلى تقنية "الراوي في مواجهة شخصياته" بأوضح صورها في قصة "مرأة جانبية".. يبدأ السرد بشكل تقليدي، ثم تتمرد الشخصية (تقوى) على الراوي العليم: "لا يرغب الراوي أن يدخل مباشرةً في الموضوع"، ثم تهاجمه مباشرة: "هل يدرك الراوي ماذا في رأسي؟!"، وتصل القصة إلى ذروتها عندما تعلن "تقوى" أن الحقيقة مخبأة "تحت جبل الجليد"، ثم تهاجم الراوي وتطعنه "تجري هاربة خارج الورق"، وهنا، تتحول القصة من سرد حدث إلى صراع على "سلطة السرد".
وتستخدم داود تقنيات الإيهام، كما في "قناع"، فبعد أن نتعاطف مع المرأة التي نظنها ضحية، يكشف الراوي في السطر الأخير معلناً: "أنا الراوي العليم، المكلف بمتابعة حالتها المرضية"، ما يقلب النص من قصة إنسانية إلى تقرير طبي بارد.
وفي قصة "زووم إن"، تبرز تقنية السرد كـ"سيناريو": حيث يُقدّم النص السردي هنا على هيئة سيناريو بـ"نقطة أولى" و"ثانية"، وينتهي بصرخة "المخرج ذي الوشاح الأحمر صارخاً: (CUT)"، ليؤكد أن المأساة السياسية المعروضة محض مشهد مُراقب.
وتحضر فلسطين مُباشرة أو دونها في "جبل الجليد"، ففي "هرم ماسلو"، تقتبس الرواية وهي، صحافية سابقة بشكل مباشر وصريح خبراً حقيقياً ومفصلاً عن الحرب على غزة لتضعه في قلب تأملاتها، مفاده: "حصلت الجزيرة على صور من طائرة مسيّرة إسرائيلية تظهر قيام قوات الاحتلال بالاعتداء على مواطنين فلسطينيين في خان يونس جنوبي قطاع غزة"، ويستمر الاقتباس ليصف "إسقاط قنبلة على جريح فلسطيني"، و"إجبار فلسطيني على خلع ملابسه"، لكنّها لا تروي الخبر كحدث، بل تستخدمه كمرآة لجَلد ذاتها ومراجعة ماضيها، بحيث تستخدم فظاعة هذا الخبر الحالي لتتذكر كيف كانت هي نفسها في الجريدة "تشارك في تطبيع الألم".
وعندما تتذكر مدير تحريرها الذي كان يطلب "دماً أكثر وضوحاً"، فهي تربط ذلك مباشرة بالخبر الذي اقتبسته من غزة، وكأنها تقول: إن ما يحدث في غزة هو النتيجة الحتمية لهذا الأداء الإعلامي الذي كانت جزءاً منه، وتصفه بـ"جثث قابلة للنشر"، لذا فالقصة تستخدم حرب الإبادة على غزة كأداة ما وراء سردية، لربط الذاكرة الصحافية القديمة بالواقع الحالي، ولتأكيد فكرة أن الصحافيين الذين يغطون هذه الحروب "يموتون بالتقسيط".
وتُعتبر قصة "أول الحياة.. آخر الموت" من أكثر القصص تكثيفاً ورمزية للقضية الفلسطينية في المجموعة، فهي لا تحكي عن فلسطين كخلفية، إنّما تُشكّل تجسيداً سردياً لانقسام فلسطين ذاتها إلى جزأين، يمثل كل منهما وجهاً مختلفاً للمعاناة.
القصة بأكملها عبارة عن رسالتين بين حبيبين، يمثلان شطري الوطن الممزق: فرسالة "هو" تأتي من قلب الدمار، من غزة بعد الحرب، بحيث تمثل المعاناة الجسدية المباشرة، والفقد المادي، والتعايش مع الموت كواقع يومي، بحيث لا يحصي الخسائر، بل يعيش فوقها، ويكتب أنه يسير "على عظام أبي وأخي وأمي وأختي"، في رمزية لتحول الأرض نفسها إلى مقبرة جماعية لعائلته، علاوة على الحديث عن الاستعداد الدائم للموت، بوصفه لأمه التي لم تعد تخلع لباس الصلاة (اليانس)، وغير ذلك، فيما رسالة "هي" تأتي من يافا، أي من داخل الأراضي المحتلة في العام 1948، في تمثيل للمعاناة النفسية، والشعور بالعجز، والاغتراب، و"ذنب النجاة"، حيث يبرز الغضب العاجز في وصفها لردود فعل والدها على الأخبار القادمة من القطاع الذي يباد، حيث يقذف التلفاز والكرسي من الشرفة وهو يصرخ "فاض الكيل"، كما تُبرز الرسالة اليافيّة الاغتراب عن المكان، وجدار الفصل العنصري كرمز نفسي، مستعيدة عبارته: "يشبه الغلاف المحيط بقلبك الجدار العازل في بلادنا، ليبقى "الحب" بينهما المحاولة اليائسة الوحيدة لربط هذين الشطرين، وفي هذا الوطن الممزق.
ولا تلتزم الكاتبة بضمير واحد، ففي حين تهيمن ضمائر المتكلم (الأنا) والغائب (هو/هي)، فإن قصة "طابق آيل للسقوط" تُبنى بالكامل على ضمير المخاطب (أنت)، وهذا الاختيار يُجبر القارئ على التماهي القسري مع المعلم الذي ينهار نفسياً وجسدياً، ويجعل من تجربة "السقوط" تجربة قراءة خانقة وفورية.
ويمكن القول إن "جبل الجليد" لأماني سليمان داود عمل كثيف متعدد الطبقات، لا تشكل قصصه رصداً للواقع الأردني أو الفلسطيني أو العربي فحسب، بقدر ما هي توليفة لواقع قاسٍ بتقنيات سردية تبتعد عن الكلاسيكية في تكوينها، لتقدّم عبرها مجموعة قصصية متماسكة ومقلقة، تؤكد أن الحقيقة، تظل "في سبعة أثمانها" غارقة "تحت جبل الجليد".