تاريخ النشر: 19 تشرين الأول 2025


آراء
لـعـنـة الـجـثـث ..!
الكاتب: أكرم عطا الله

لعنة الجثث أو لعنة الأسرى، أحياء أو أمواتاً، هكذا يمكن وصف ما حدث في غزة منذ السابع من أكتوبر وأسر إسرائيليين، لتتحول تلك إلى جحيم فلسطيني امتد لعامين ومرشح للزيادة إذا لم تحل عن الفلسطينيين لعنة الجثث وأسلوب الإسرائيلي في استغلال قسوة الظروف وانعدام معدات الحفر وفقر المعلومات وحالة التيه، وموت الكثير ممن لديهم مفاتيح لجثامين، واستمرار حماس بسطحية تفسير الواقع أو انتظار المخلص الذي لن يأتي، أو الاعتقاد بأن مزيداً من الوقت سيغير هذا الواقع.
في مصر هناك لعنة الفراعنة قد سرت كأسطورة بين المصريين بعد فتح مقبرة توت عنخ آمون بدايات القرن الماضي، ومنذ يومها يصدق المصريون أن المومياء القديمة المدفونة يمكن أن تلقي بلعنتها فيتعرض الفرد لسوء الحظ أو الموت أو المرض، لا يتشابه الأمران لكن كأن اللعنة حلت على غزة منذ أن أصبح بها جثث وأحياء دفعت ثمنهم أكبر مما يمكن أن تتحمله هذه المدينة الصغيرة والفقيرة ولا تزال.
تدرك إسرائيل استحالة العثور على كل الجثث، وتدرك أن ما فعلته بغزة حين قلبت كل حجر بالطائرات وبجنازير الدبابات وبتلغيم البيوت، وكذلك بما ألقته من حمم على غزة فاق قنبلتي هيروشيما وناجازاكي أحرقت لحم الناس في غزة وتبخرت عظام الكثيرين وتحول كثير من جثامين الفلسطينيين إلى رماد، وبالتأكيد أيضاً تحول بعض جثث الإسرائيليين إلى رماد، فإذا لم تجدها حركة حماس فماذا سيكون عليه الوضع ؟.
لن تقرأ إسرائيل كل هذا، وتعتقد أن جثث أسراها كنز مدفون في حديقة صغيرة ويملك ورثة الكنز خريطته الدقيقة ومن السهل الحفر في مكان ما وإخراجه، هذا منافٍ للواقع ولمعرفة إسرائيل الدقيقة بما حدث وما أحدثته بما يجعل أن عليها أن تبدأ بتأهيل نفسها وشارعها بأن هناك جثثاً لن يتم العثور عليها للأبد وأن أكثر من «رون أراد» سيبقى يرافق رحلتها المتوحشة في غزة، فقد كان لديها كل الفرص لاستعادتهم في بداية الحرب لكن العقل المصاب بعمى القوة أضاع تلك الفرصة، وأن حركة حماس أيضاً بعقلها غير الواقعي رفعت مبكراً سقف التبادل بتبييض السجون دون أن تتخيل أن الحرب ستنتهي بأن يكون في السجون ضعف عدد الأسرى قبل عملية السابع من أكتوبر حتى بعد عمليات التبادل الثلاث.
ماذا تريد إسرائيل من غزة حتى نعرف إلى أين ستنتهي لعبتها في ملف الجثث؟، وما الذي تريده أيضاً حركة حماس حتى نقدر سلوكها وتعاطيها مع الأمر ؟
فنحن أمام طرفين ما زالا بعيدين عن شكل النهاية.
فحماس تريد العودة للوراء قليلاً ولكنها حسب مسؤولين فيها لن تسلم سلاحها كما جاء في خطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب بل تريد الاحتفاظ بما يضمن لها من قوة تحافظ فيها على نفسها من صراعات داخلية كانت جزءا منها.
ولم يتواضع أمنها الداخلي خلال سنوات حكمها في إهانة الغزيين ما ولد كثيراً من الأحقاد لدى هؤلاء، ناهيك أيضاً عن إرادة ضمان وجودها كقوة سياسية من خلف الستار وهذه لا يتم تأمينها بغير السلاح.
لكن إسرائيل التي تمارس دهاء السياسة بلا خطوط حمراء بوحشية شكلت سابقة في تاريخ البشرية لا تريد لغزة أن تستقر، ولا أظن أنها ستكون مرنة في فهم واقع ووقائع الأسرى والجثث والتبخر، وخصوصاً أن رئيس الوزراء الذي يحمل على كتفيه انتخابياً إرث السابع من أكتوبر كان يتعهد على جبل هرتسل قبل أيام في القدس وهو يحيي ذكرى قتلى إسرائيل باستعادة كل الأسرى.
هذا رغم التقديرات الإسرائيلية الأكثر مهنية التي قسمت الأسرى المتبقين إلى ثلاث فئات تقدر أن خمسة أسرى لا تعرف عنهم حركة حماس شيئاً، رغم غمزها بأن هناك فئة تتلكأ حركة حماس بتسليمهم للاحتفاظ ببعض الأوراق لكنها في النهاية تقر بأن هناك أكثر من أسير لن يتم العثور عليه ولن تتسلمه للأبد.
وهذا منطقي ومفهوم لمن رأى الأبراج تتهاوى وتشكل أهراماً من الركام، وإذا كان أسفلها نفق هذا يعني أن الأمر يحتاج لأشهر طويلة من إزالة الركام أما إذا كان الحراس في ذلك المكان وحدهم يعرفون بالأمر وقضت عليهم إسرائيل مع الأسرى يعني أنهم أصبحوا سراً لن ينكشف للأبد. وحينها ماذا ستفعل إسرائيل ؟
نحن أمام معضلة حقيقية. كان متوقعاً أن تحدث المشكلة عندما تبدأ الأطراف بالبحث في اليوم التالي وموضوع السلاح ومعادلاته الصفرية بين الطرفين، لكن استعجال إسرائيل لصناعة أزمة يعكس ما يشي بالقلق لسببين: الأول أن التجربة مع الإسرائيلي على امتداد عقود طويلة هي حقول ممتدة من الألغام التي لم تتوقف عن الانفجارات في وجه الفلسطينيين، والثاني أنه من السذاجة أن نعتقد أن مشروع إسرائيل في غزة توقف عند هذا الحد أو يقبل بتلك النتيجة التي يبقى فيها سكان غزة يعيشون حياتهم ويبدؤون من جديد وتستقر غزة وتبقى فيها تلك الكتلة الديمغرافية المؤرقة، خاصة بعد أن جربت نظام حكم فلسطيني وقعت معه اتفاقيات نبذ العنف لكن توربينات غزة أعادت إنتاج الصدام من جديد.
لهذه المسائل ولغيرها أيضاً لا نتوقع أن تذلل إسرائيل عقبات بل ستضع الكثير منها وهذا يتوقف على الوسطاء ومعرفتهم بأن الإسرائيلي سيئ النية يخطط للتهرب، وصناعة أزمة قد تفجر الأمر من جديد إذا لم تتم محاصرته.