تاريخ النشر: 17 تشرين الأول 2025


آراء
الآن جاء دور الوسطاء
الكاتب: رجب أبو سرية


بعد أن قبل طرفا الحرب، أي إسرائيل وحماس الاتفاق وفق خطة ترامب، وذلك على مضض، وبعد ضغط مورس على الطرفين، الطرف الإسرائيلي من قبل الرئيس الأميركي، وحماس من قبل الوسيطين القطري والتركي، وذلك لأن كليهما وجد في بنود الخطة، ليس خطوطاً عامة فقط، ولكن ما هو دون ما رفعاه من شعارات، أو ما سبق لهما وأعلناه باستمرار كشروط او كمطالب كانت توصف دائماً من قبل الوسطاء أنفسهم، بأنها تشكل فجوة صعبة، خاصة ما يخص اليوم التالي لوقف الحرب، وحيث ان كلا الطرفين قد اعتبر بأن خطة ترامب لا تستجيب لكل ما يريده، إلا انهما كلاهما رأيا في تنفيذ المرحلة الأولى، ما يتوافق مع مطالبهما وان كانت متناقضة، ولأجل هذا أصلا قرر الوسطاء البدء بصفقة تبادل المحتجزين بالأسرى والمعتقلين، أي بالملف الأسهل، وتحويل وليس تأجيل الملفات الأخرى، الخاصة بما بعد وقف إطلاق النار، لحوار آخر، وذلك حتى يمكن الخروج من الطريق المسدود، ومن المأزق التفاوضي، وذلك بعد إقدام إسرائيل على الخطوة المجنونة، المتمثلة بقصف الدوحة القطرية بقصد اغتيال المفاوض الحمساوي، في دليل قاطع على ان نتنياهو كان يريد اغلاق الباب نهائياً على المسار التفاوضي، والاستمرار في الحرب الى ما لانهاية.
كان واضحاً بأن الطرف الأميركي كان يعطي الأولية لإطلاق سراح المحتجزين، وذلك لدفع حظوظ ترامب نحو جائزة نوبل قدماً، ولأن هذا يمثل مطلب اكثر من نصف الاسرائيليين وكل من لا زال يتعاطف معهم، فيما كان وقف الحرب هو المطلب الفلسطيني والعربي، بل مطلب كل العالم، لذلك فإن الجميع توافق وبسهولة وبسرعة على صفقة وقف الحرب مقابل اطلاق المحتجزين، وحتى لا يظهر الأمر كذلك، خاصة بالنسبة لبنيامين نتنياهو، الذي يخشى منذ عامين الإعلان الصريح عن وقف الحرب حتى لا ينهار ائتلافه الحاكم، فقد كانت المرحلة الأولى من الخطة تتمثل في اطلاق سراح المحتجزين الأحياء والأموات، مقابل وقف إطلاق النار، واطلاق 250 اسيراً فلسطينياً محكومين بالمؤبد، إضافة لنحو 1700 معتقل من غزة خلال هذه الحرب، مع إدخال المساعدات الإنسانية، وهذا يعتبر صفقة بحد ذاته تخفف معاناة غزة، فيما يبرر إطلاق سراح الأسرى ذوي الأحكام المؤبدة لحماس قيامها بتلك المغامرة العسكرية في 7 أكتوبر، من جهة، وللجهة المقابلة، يخفف الضغط العالمي على إسرائيل التي صارت منبوذة تماما، بسبب مواصلتها حرب الإبادة على قطاع غزة.
ما بعد ذلك، أي ما بعد تنفيذ المرحلة الأولى، لم يعد شأن الطرفين المتحاربين، ليس لأنهما لن يكونا متحمسين للمتابعة وحسب، بل لأن ملفات ما بعد صفقة اطلاق المحتجزين مقابل وقف الحرب، هي ملفات عديدة، وذات طابع اقليمي، فضلاً عن انها تتعارض تماماً مع مصلحة الطرفين، أي حماس واسرائيل، واي استعراض سريع لجملة تلك الملفات يؤكد ما نذهب اليه، اسرائيل لا تريد ان تعود السلطة الفلسطينية لإدارة قطاع غزة، لأن ذلك عملياً يعني فشل كل ما سعى اليه اليمين الاسرائيلي بقيادة بنيامين نتنياهو طوال ثلاثة عقود، من قطع الطريق على قيام دولة فلسطين الموحدة على ارض 67، تشمل كلاً من الضفة الغربية والقدس، وقطاع غزة، ويعارض نتنياهو تسلم السلطة ادارة غزة، اكثر مما يعارض بقاء حكم حماس، وحماس أيضا تقول وهي تحت الضغط بأنها قبلت الخروج من حكم غزة، لأنها تراهن على فشل كل الخيارات الأخرى، ما دامت اسرائيل تعارض تسليم غزة للسلطة الفلسطينية، وبالفعل أظهرت الأيام الأولى لوقف إطلاق النار كيف ان شرطة حماس سارعت لملء الفراغ، والقيام بدور سلطة الأمر الواقع، بل سارعت فورا الى سحق ما يسمى بالميليشيات التي تشكلت ميدانيا، خاصة في شمال القطاع.
اي ان اليوم التالي قد حل بمجرد توقف اطلاق النار، وبمجرد اعادة الجيش الاسرائيلي انتشاره بناء على خرائط الخط الأصفر، وهذا يعني البقاء عند حدود المرحلة الأولى، يعني ان اسرائيل حققت نصف انتصار، على اساس انها لم تحقق الانتصار الساحق كما كان يؤكد نتنياهو، بأهدافه الخمسة، ومنها سحق حماس ونزع سلاحها، في حين تمثلت هزيمة اسرائيل بفشل هدف التهجير، الذي قال به ترامب نفسه، بينما وقع ككفيل على وثيقة السلام في شرم الشيخ، ودفع الأمور لواقع يعود فيه الغزيون الى اماكنهم المدمرة، لكنهم لا يغادرون القطاع للخارج، أما نصف انتصار حماس، فيظهر من خلال اكثر من شاهد، أول هذه الشواهد هو بقاؤها كطرف مفاوض حتى آخر يوم من الحرب، وإجبار إسرائيل على صفقة متعددة الجوانب فيما يخص الطرف الفلسطيني، مقابل تنفيذ بند وحيد يخص إسرائيل وهو إطلاق المحتجزين الأحياء، فيما يجري تسليم جثث المحتجزين الأموات بالتقسيط.
واهم هذه الشواهد حالياً هو ظهور شرطة حماس علناً، وبلدياتها وهي تفتح الطرق وتمارس دور السلطة التي تزيل الركام وتنظم عودة الناس لمدنهم وبلداتهم ومخيماتهم وأحيائهم، واكثر من هذا بفرض السلطة العسكرية على من شقوا عصا الطاعة عليها عسكرياً، ولا شك ايضاً بأن إسرائيل ومعها أميركا قد تراجعتا عن الكثير مما كانتا قد قامتا بفرضه، من مثل إقامة مركز المساعدات الأميركي وحصر توزيع المساعدات عبره، بينما منحت المهمة الآن للأمم المتحدة والصليب الأحمر، لكن احتفاظ اسرائيل بنحو نصف مساحة القطاع، يعتبر نصف احتلال، واحتلالاً رخيصاً لأن ذلك الشريط خال من السكان، باختصار هذا يعني كارثية التوقف عند حدود المرحلة الأولى، كما يفضل طرفا الحرب، حماس واسرائيل.
والتوقف عند حدود المرحلة الأولى يعني ان يعيش اكثر من مليوني مواطن في بيئة لم تعد قابلة للحياة، ويمكن سرد العديد من الأدلة على هذا، حيث تشير التقديرات الى ان الركام يبلغ 50 مليون طن ويحتاج الى 20 سنة لإزالته، أما إلقاء 100 ألف طن متفجرات فضلاً عما قتلته ودمرته فإن الكثير منها لم ينفجر، وهذا يشكل خطورة بالغة، هناك البنية التحتية والنفسية، واضطرار الناس للإقامة في العراء مع فصل شتاء قادم، باختصار غزة بهذه الحالة هي عبء على اية سلطة ما لم تتلق الدعم الخارجي، عبر البدء بإعادة الإعمار بسرعة، وبالترافق مع ذلك إعادة ترميم المجتمع الفلسطيني، وهنا تبدو الحاجة ماسة للدعم الخارجي فيما يخص الإعمار، وللسلطة الفلسطينية فيما يخص ترميم المجتمع وإعادة وحدة الشعب الفلسطيني وبث أمل الحرية والاستقلال في نفوس أبنائه بعد كل هذا العذاب الذي تعرضوا له.
اما بقاء غزة هكذا فهو أمر يثلج صدر إسرائيل، لأنه يعني بأنه لن تقوم لغزة قائمة، وغزة العبء تثقل كاهل مشروع الدولة الفلسطينية، فيما غزة المعافاة تشكل رافعة للدولة ومصدراً لقوتها، بل وكما قال مراراً الرئيس محمود عباس، لا دولة في غزة، ولا دولة بدون غزة، ليس فقط لأن غزة والضفة تشكلان جناحي الوطن الفلسطيني، بل لأن الضفة وحدها قطعة جغرافية داخلية بلا حدود مائية خارجية، أما غزة ففضلاً عن غاز مارينا، الذي يمكنه ان يشكل اهم عناصر ميزانية الدولة الفلسطينية، فإنه يمكن الاستثمار السياحي فيها، وهذا ما أسال لعاب ترامب حين تحدث عن ريفيرا الشرق الأوسط، كذلك يمكن ان تتحول غزة الى ميناء لتصدير غاز ونفط الخليج الى أوروبا، لكن غزة وحدها لا يمكنها ان تكون دولة، لأنها شريط جغرافي ضيق جداً، منفجر سكانياً، وقيام دولة فلسطين، يفترض فيه ان يكون مناسبة لإقامة ملايين الفلسطينيين اللاجئين في دول الجوار وفي المنافي.
لكل هذا نعتقد بأن الوسطاء كانوا اذكياء ليس فقط من أجل اقناع حماس، بأن الحرب ستتوقف بعد اطلاق سراح المحتجزين، ولأن الجميع بات يدرك بأن حرب نتنياهو قد تحولت الى حرب تسعى لتغير الشرق الاوسط وفق احلام اليمين الإسرائيلي، لذلك كان حرص القاهرة على اطلاق مؤتمر السلام في شرم الشيخ، وعدم الاكتفاء بما أطلقه ترامب من شعارات بعدم التوقف عند حدود غزة، وإطلاق سلام اقليمي، وكان ذلك بحضور اكثر من ثلاثين دولة ومنظمة عربية وإسلامية شرق أوسطية ودولية، وبرئاسة مصرية _أميركية مشتركة، وان ينتهي المؤتمر ليس بطريقة احتفالية، بل بالتأكيد على ان قرار وقف الحرب، لم يعد بيد نتنياهو ولا حتى ترامب، بل صار جوهر وعنوان الاتفاقية والخطة، لذلك ظهرت وثيقة السلام في نهاية المؤتمر، الموقعة من قبل قادة أميركا، مصر، قطر وتركيا، بما يعني أن هذه الدول هي التي اتخذت قرار وقف الحرب، وهي الضامنة له، وفي هذا السياق، يأتي الحديث عن إعداد الشرطة الفلسطينية في مصر، وإرسال خبراء الطوارئ الأتراك الى قطاع غزة.