تاريخ النشر: 16 تشرين الأول 2025

فيلم "غزة.. صوت الحياة والموت": رحلة سمعية في قلب الجغرافيا المنكوبة

 

كتبت بديعة زيدان:

 

يلاحق المخرج الفلسطيني حسام أبو دان، في فيلمه الوثائقي "غزة صوت الحياة والموت"، الحكايات التي يرصدها مهندس الصوت محمد ياغي بلا كلل لتسجيل الأصوات في قطاع غزة، علاوة على حكاياته هو نفسه، ليقودنا معه في رحلة سمعية عبر قصص عدّة، تعكس كل منها تأثير حرب الإبادة على صاحبتها أو صاحبها، فمن خلال أصواتهم وتجاربهم، نشهد تحوّلات هذه الجغرافيا الفلسطينية المنكوبة، في إطار فيلمي آسر وأصيل حول كيفية تحمل كل هذا الرعب والقتل، والتمسك بالأمل رغم كل ما يفوق الوصف.
في الفيلم، الذي أنتجته منصة "الجزيرة 360"، واستضافت دارة الفنون في العاصمة الأردنية عمّان، عرضاً له، قبل أيام، يخبرنا ياغي عن تجربته ما قبل الحرب، في تسجيل صرخات الأطفال حديثي الولادة، أو بمعنى أدق فور ولادتهم، وهو صوت يرمز للبدايات والأمل، في حين بات، ومنذ حرب الإبادة يسجل صرخات النهايات، وفي حالات أقل وطأة، انهيار الأمل، ليبدي انزعاجه الشديد، وهو يسجل أصوات الحزن، حيث الصراخ، والعويل، والنحيب، بينما يفقد الناس عوالمهم في صورة آباء، وإخوة، وأزواج، وزوجات، وأطفال، ومنازل كانت تؤويهم، في مواجهة بين الأصوات المألوفة وغير المألوفة في آن، من فرطها قياساً بالحروب السابقة، وبين الأصوات التي كانوا يستمتعون بسماعها في غزة الممحيّة.
وياغي، الذي وُلد ونشأ في حي الشجاعية بغزة، مهندس صوت وصانع أفلام لم يغادر غزة قط، ويلتقط بعصاه والمايكروفون المرافقين له المشهد الصوتي للمدينة خلال الحرب المستمرة، في عالم يصبح فيه الصمت نفسه مدوياً بشكل استثنائي.
المرأة العجوز، جدّته، سمعت كل الأصوات منذ العام 1948، حتى أصبح سمعها ضعيفاً، ومع ذلك بقيت تخاف من الأصوات العالية وتلجأ للاختباء تحت البطانية في هذه الحرب.
الفتاة الصغيرة، غزل، قالت إن أصوات القصف لا تتوقف، وقلبها يتمزق خوفاً، وإنها لا تشعر بالأمان على الإطلاق، هي التي كادت تموت ذات مرة أثناء تعبئة المياه.. إنها تفتقد صوت جرس المدرسة، تفتقد الطفولة، وصوت المهرجين القادمين لتخفيف شيء من معاناتها.
خالد لاعب كرة القدم السابق، الذي نزح مع عائلته وطفله، حرمته الحرب من هتافات وتشجيع الجمهور والمشجعين، أما الفتاة التي تتحدث عن شقيقها المصاب في الفيلم، وهو الابن الوحيد في العائلة، حيث كان وجوده ونشاطه في المنزل يمثل أصوات فرحهم وضحكهم، وبات يحتاج إلى من يسنده بعد أن فقد ساقيه في الحرب.
ورغم مشاهد وأصوات أرض تحولت إلى ركام، فاللمحات القليلة والموجزة لما كانت عليه غزة، تبدو كاستعادات من أحلام محمومة، فتسجيلات ياغي الأكثر رسوخاً في الذاكرة هي تلك التي لسكان غزة العاديين، وهم يتحدثون عن آمالهم في انتهاء الحرب ومخاوفهم بينما يضطرون لتحملها.
ومن يشاهد الفيلم المؤثر بطريقة مُغايرة، يمكنه بقليل من التمعن إدراك أن الهدف منه لم يكن مجرد تسجيل الصوت، إنما فهم قوته كأداة للتواصل العاطفي والتفاهم الإنساني.. ومن خلال ذلك، السعي لخلق تجربة سمعية حسية عميقة تتجاوز السرد القصصي التقليدي، ما جعل المشاهد يشعر بثقل واقع غزة عبر مشهدها الصوتي.
لأصوات الناس في غزة إيقاعها الخاص، وهذا ربّما يبرر غياب أي مرافقة لموسيقى تصويرية، فالألم والمعاناة كافيان للتعبير عن كل شيء.. صوت غزة نفسه كان الموسيقى التصويرية للفيلم، الذي يُبرز استبدال الأصوات في غزة بأصوات أخرى، فصوت تلاميذ المدارس في الطابور الصباحي استُبدل بصوت طوابير تعبئة المياه وطوابير الطعام، وبقي صوت "الزنانة" هو الصوت الوحيد الذي لم يتوقف منذ العام 2008، بداية حصار غزة، وحتى الآن، الصوت المزعج القاتل الذي تحوّل إلى روتين يومي.
ولعل ما تردد على لسان ياغي في الفيلم الحائز على عديد الجوائز السينمائية الدولية، يختصر المشهد برمته: "الصوت رمادي.. الآن لا يوجد لون، هذا يعني الصمت بالنسبة لي.. هناك صدى مميت.. الآن أرتدي سماعات الأذن عندما أمشي لأنني لا أريد سماع أي أصوات.. هناك أصوات الناس يصرخون ويبكون وينتحبون، وأصواتهم عالية جداً، ولكن لأن هذه الأصوات عالية جداً، لا أحد يسمعها، لأن الألم والمعاناة والفقدان عمّ الجميع.. عندما أضع سماعات الرأس، أستمع إلى الأغاني والموسيقى الوطنية، أرى أهوال الإبادة الجماعية والقتل والدمار أمامي، ثم أسمع الأغاني التي تصور ذلك".