تاريخ النشر: 17 آب 2025


آراء
نخبة ضد إسرائيل وليست مع فلسطين
الكاتب: عامر بدران

قبل أيام قام أحد أصدقائي الذين أحترمهم بإلغاء صداقتي على «فيسبوك»، وهذا تفصيل صغير في الحياة اليومية لا يجب أن يعني أحداً، ولا يُفترض به أن يشكل موضوعاً لمقال، أو حتى لمحادثة بين اثنين، خصوصاً في زمن الحرب وما يحدث فيها وبسببها وعلى هامشها. لكنني أحب صديقي هذا، وأريد أن أوجه له هذا الكلام، ومن خلاله للكثيرين الذين يشبهونه على ساحتنا الفلسطينية والعربية.
أريد التأكيد بداية أن حبي واحترامي لهذا الصديق ينطلق، أولاً، من مواصفاته الشخصية العالية في جانبها القيمي والسلوكي، أي أنك تفخر به كصديق، أو جار، أو مواطن يعيش معك تحت نفس التصنيف الوطني والقومي، أو حتى الإنساني. وهو ثانياً شخص نافع لمحيطه ولبلده، من خلال إخلاصه لعمله وتفانيه فيه. وهو ثالثاً شخص مبدع في أحد أصناف الفنون، والتي تساهم في تشكيل هوية ثقافية وإنسانية للفلسطينيين، وتقرّبهم من النجاح في امتحان الجدارة، والذي هم في أمَسّ الحاجة للنجاح فيه دوماً.
علام الخلاف إذاً؟ إنه على السياسة، أو للدقة إن الرجل لم يعد يستطيع تحمّل آرائي السياسية حول «حماس»، وحول ما يجري على الساحة الفلسطينية منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، فقرر أن يلغي هذه الصداقة. وهنا بالضبط بيت القصيد، والذي يجعل من هذه الحادثة البسيطة موضوعاً لمقال.
هناك مثقفون، أو أشخاص علمانيون، أو أدباء، أو نشطاء يساريون، بصرف النظر عن التسمية أو التوصيف، إلا أننا نتحدث عن مجموعة كبيرة من الذين يمكن أن نطلق عليهم لقب «نخبة» فلسطينية، وهذه النخبة لا تنتمي للإسلام السياسي، بل هي في نقيض معلن له لمجرد تموضعها في مكانها الاجتماعي أو الثقافي الذي اختارته، والذي عرّفت عن نفسها من خلاله.
بمعنى أن الذي اختار أن يكون موسيقياً، أو شاعراً يغص شعره بالنبيذ، أو ناشطاً قانونياً كرّس حياته لتطوير قانون الأحوال الشخصية، ولحقوق المرأة، أو مفكّراً يكتب في نقد الفقه، فمن المنطقي ألا يكون حليفاً للإسلام السياسي، ودون أن يقول ذلك صراحة، فهو ليس بحاجة لهذا الإعلان من الأساس، أي أن مجالات نشاطه واهتماماته اليومية هي من تعلن عن ذلك دون الحاجة لتصريح لغوي منطوق أو مكتوب منه شخصياً.
هذه النخبة واضحة اجتماعياً وثقافياً، لكنها غامضة سياسياً، أو لنقل إنها لا تتمتع بنفس الوضوح حين يتعلق الأمر بالسياسة، وإن شئنا الصراحة أكثر فهي لا تمتلك أدوات السياسة، فتستعيض عن ذلك بتبني الشعار، وهي لا تمتلك الرؤيا الوطنية فتستعيض عنها بالموقف.
لا أحد ينكر بالطبع أن قضيتنا وتعقيداتها تلعب دوراً في تشكّل عدم الوضوح هذا، وأن عدونا بما يملك من تاريخ مليء بالمحطات الدموية تجاهنا، ومن قدرة دائمة على البطش بأجسادنا وبأرضنا وبأحلامنا، قد أزاح جزءاً كبيراً من الفلسطينيين إلى مربع الثأر والانتقام، والذي يتناقض مع التفكير السياسي العقلاني، وأن الضحية عاطفية بطبعها بسبب المعاناة الدائمة، واليأس من تحقق ذاتها الإنسانية كما تشتهي وكما يليق بها.
يمكن، هنا، إضافة إغواء الأكثرية إلى أسباب هذا التناقض بين الهوية الاجتماعية المستقرة والواعية عند هذه النخبة، وبين هويتها السياسية المضطربة وغير الواضحة. فالخطأ، كما قال أحدهم، حين يتحول إلى ظاهرة اجتماعية فإن محاكمته تتراجع وتفقد مشروعيتها، وذلك لأنه خرج من الزاوية الضيقة للاستثناء، وانتقل إلى المساحة الواسعة للقاعدة. أي أن الموقف السياسي الخاطئ حين تتبناه الأكثرية فإن التماهي معه، أو السكوت في حضرته، أسهل وأسلم للرأس من مواجهته ومواجهة أصحابه.
كما يمكننا إضافة سبب مهم آخر إلى الأسباب التي تفسر لماذا تعيش هذه النخبة في عالمَين متوازيين: عالم علماني اجتماعياً، وعالم إسلامي سياسياً، وهذا السبب هو الكفاح المسلح، وكل ما يُثقل هذا الأسلوب النضالي من حمولات تاريخية ورومانسية عصية على المراجعة والتقييم، وبالأخص حين يكون عدوك يحاربك بالسلاح مترافقاً مع الدبلوماسية والإعلام.
فإلى جانب أن الفلسطيني، الذي لم يحقق أهدافه كاملة، يخجل من خلع بذلة الفدائي في طريقه لتحقيق هذه الأهداف، فإن من خلعوا هذه البذلة تركوا الساحة للإسلامي ليتفرد بارتدائها، وبالتالي فالذي ارتداها استطاع أن يفرض أسلوبه الجهادي المعبأ بالأيديولوجيا، حتى لو تسبب هذا الأسلوب بكوارث كبرى على الشعب الفلسطيني وقضيته برمّتها. خصوصاً أن تبريره دائماً جاهز، وهذا التبرير لا يتطرق إلى النتائج، بل يهرب منها ليغوص في الإرث والحمولات الرومانسية التي تدغدغ مشاعر الجمهور، فيتسامح معه.
كل هذه الأسباب وغيرها، يمكنها أن تفعل فعلها عند مَن لا حظّ لهم من المعرفة العلمية والثقافية الوازنة، لكن غير المفهوم هو أن تأثيرها تجاوز ذلك إلى هذه النخب. وهنا أصبحت لدينا مجموعة من صنّاع الرأي الذين يصدّرون لنا موقفاً يمكن تسميته الاصطفاف «السلبي» وليس الإيجابي، ولا أقصد بهذه الكلمة نوعاً من التصغير، بل أقصد بها مفهوم الـ»ضد» وليس الـ»مع»، أي أن الشخص من هؤلاء يعلن صراحة أنه ضد إسرائيل، أو ضد الاحتلال، ويفاخر بذلك ويعتبره غاية الصواب، وهذا جيد ومحق، لكن إن سألته مع من أنت؟ فليست لديه إجابة مقنعة.
ولأنه لا يملك إجابة مقنعة، فهو يبحث عن الإجابات الفضفاضة والغائمة التي تحتمل أكثر من  معنى وأكثر من تأويل، وأسهل مثال على ذلك هو مصطلح «المقاومة». إنه مع المقاومة، دون أن يحدد لك أي مقاومة هي المقصودة، وهو معها ما دام اسمها كذلك، وليست «نضالاً» قد يُقرن بالأهداف، أو «جهاداً» قد يشوّش عليه هويته الاجتماعية.
إذاً فهذه النخبة لا تجرؤ، أو هي لا تريد أن تقول لك إنها مع «حماس»، أو مع الإسلام السياسي عموماً، أو مع طريقة الإسلام السياسي في المقاومة، لأن ذلك يقودها تلقائياً إلى تقبّل الثمن المدفوع فلسطينياً مقابل هذا النوع من المقاومة. ولأنها أذكى من أن تقع في هذا المطب، فهي تذهب إلى تقديس المصطلح المجرد ما دام مقروناً في أذهان جمهورها بإسرائيل، أي بالضد. وكل من يحاول نقاش ومحاكمة هذا المصطلح من منظور المصلحة الفلسطينية، فليتم إسكاته، وإن لم نستطع فالأفضل أن نتجنب سماعه.