تاريخ النشر: 22 تموز 2025

حين يكسر زياد خداش الجدار الرابع بالسفر إلى كعكة القمر

 

إياد شماسنة:

 

"السفر إلى كعكة القمر" رواية لزياد خداش، عمل روائي سردي فريد يجمع بين الواقعية السحرية والتأريخ الشفوي بأسلوب مبتكر، يحاول فيه الراوي أن يعود عبر الزمن إلى قريته المهجّرة "بيت نبالا" في العام 1947، مستعينا بخيال علمي ممزوج بالتاريخ، وبذاكرة شخصية وعائلية، وشغف إبداعي ووعي سياسي مهم، يتجلى في مجمله على شكل نوفيللا فلسطينية تشكل مساهمة مهمة في السردية الفلسطينية، وذلك عبر كسر الجدار الرابع ضمن تقنيات ما بعد الحداثة.
والنوفيللا فنٌّ يقع بين القصة القصيرة والرواية الطويلة من حيث الحجم والبنية، يتميّز بكثافته السردية، وتركيزه على حدث واحد أو مسار درامي مركزي، غالبا ما يُقدَّم بأسلوب مضغوط، دون الإغراق في التفرعات أو الشخصيات الثانوية. تاريخيا، تطور هذا الشكل في الأدب الأوروبي، وبرز كوسيط مثالي لاستكشاف أفكار معقدة ضمن حيّز محدود، وغالبا ما يُستخدم في الأدب الحديث كأداة للتجريب الأسلوبي أو المعالجة الرمزية المكثفة.

 

البنية السردية وخصوصية التخييل
قامت الرواية على مستويين متداخلين من السرد: السرد الواقعي الذي يتمثل في حديث الراوي عن أمه، والتهجير، والماضي الفلسطيني، وسرد تخييلي يقوم على السفر عبر الزمن والبوابات النجمية. هذا التداخل بين الواقع والخيال، بين التاريخي والفانتازي، يُشكّل السمة الأساسية في البناء السردي للرواية/ النوفيللا.
تبدو الرواية كأنها توثيق ذاتي، إذ يتقمص زياد خداش فيها ذاته الحقيقية ككاتب فلسطيني يعيش اللجوء، لأنه يريد عبر الخيال أن يختبر الماضي شخصيا، لا سرديا فقط. ومن هنا، تصبح الرواية نوعا من "أدب العودة" القائم على استحضار الماضي، محاورته، وربما تغييره.
يظهر التخييل العلمي في فكرة "البوابة النجمية" و"جهاز الزمن" الذي يسافر به البطل إلى العام 1947. لكن هذا التخييل لا يقف عند حدّ الفانتازيا بل يتقاطع مع الوثيقة والتاريخ، إذ يتم إدراج معلومات تاريخية عن فلسطين والقرى والقرار 181 والتقسيم، ما يجعل الرواية تنتمي إلى ما يُعرف بـ"الرواية التوثيقية المتخيلة".

 

اللغة والأسلوب
اللغة في الرواية غنية، مشبعة بالصور الحسية والانفعالية، وتتماوج بين البساطة والتعقيد، بين اللغة المحكية والعامية الفلسطينية، والفصحى الأدبية. يعكس هذا التنوع البيئة السردية والثقافية التي تتحرك فيها الشخصيات، خصوصا أن البطل ينتقل من عصر إلى آخر، ومن بيئة رقمية (عصر الفيسبوك والواتساب) إلى بيئة قروية تقليدية.
يستعين الكاتب بأسلوب وصفي دقيق، يعيد من خلاله بناء مشاهد القرية الفلسطينية كما كانت قبل النكبة، فنشعر برائحة الطابون، نلمس حجارة البيوت القديمة، ونسمع الأذان من جامع القرية. هذه اللغة الحسية تكشف عن مهارة الكاتب في استخدام التفاصيل لإحياء المكان والزمن.
وفي كثير من المشاهد، تغدو اللغة حوارية، تُقارب الأداء المسرحي أو السينمائي، خاصة في اللقاءات بين الراوي والشخصيات القديمة، مثل جدّه وأمه الطفلة. كما تتداخل الجمل القصيرة المفعمة بالتوتر والانفعال مع الجمل الطويلة التأملية، ما يعطي للنص إيقاعا خاصا.

 

الشخصيات وبناؤها
أهم ما يميز بناء الشخصيات في الرواية هو تعدد أبعادها وتنوعها الزمني. فالشخصيات تُقدَّم بصيغ مختلفة: شخصية الأم كطفلة، والجد كشاب، والأب كطفل، ثم شخصية مصطفى سليمان، أحد المحاور المركزية في الرواية، الذي يجسّد البُعد النضالي، وهو شخصية تاريخية حقيقية تتم استعادتها عبر التخييل.
يعكس التفاعل بين الراوي ومصطفى سليمان بُعدا فلسفيا عميقا في الرواية: الصراع بين الحتمية التاريخية وإمكانية التغيير، بين المعرفة المسبقة بالمصير، والعجز عن تغييره. مصطفى يُصاب بالانهيار حين يعلم بمستقبل فلسطين، وكأن المعرفة هنا تصبح عبئا ثقيلا.
شخصية هيفاء، المصرية، تقدم بعدا عاطفيا وإنسانيا للرواية، وتربط بين القضية الفلسطينية والعمق العربي، فهي التي تسهّل للراوي رحلة العودة، وتجسد الحنين العربي العام إلى فلسطين.

 

الزمان والمكان
الزمان في الرواية بطل خفي، وهو موضوع الرواية ومادتها الأساسية، وليس مجرد إطار للأحداث. لا يروي الراوي ما حدث في الماضي، بل يسافر إليه، ويعيش فيه، ويتفاعل معه، ويقارن بين زمانين: 2024 و1947، في عملية جدلية مستمرة. أما المكان، فيتمثل في قرية "بيت نبالا"، التي تُبنى مجددا عبر الذاكرة والسرد. القرية كيان حيّ، له رائحة وصوت وملمس، تتجلى بشكل شبه أسطوري من خلال تفاصيل الحياة اليومية، والأسماء، والأهازيج، والمعمار، والزراعة.
بيت نبالا تتحول إلى رمز لفلسطين ما قبل النكبة، رمز للطمأنينة والكرامة والهوية، مقابل مخيم الجلزون الذي يسكنه الراوي، والذي يمثل التهجير، والضياع، والمنفى. هذا التباين بين المكانين يُشكل المفارقة المركزية في الرواية.

 

الرمزية والتأويل
تحفل الرواية بالرموز: "الجهاز الزمني" يرمز إلى التوق الفلسطيني العميق للعودة، العودة إلى الجذور، إلى الذات قبل الانكسار. تصبح القرية نفسها بمثابة "الفردوس المفقود"، أما رحلة الراوي فهي مثل "الكوميديا الإلهية" الحديثة، حيث يمر عبر عوالم ويواجه تجارب نفسية وفكرية وروحية مكثفة.
تعكس شخصية هايل التي يتقمصها الراوي في القرية، أيضا رمزية "الآخر الغريب" الذي يُعاد دمجه في الجماعة، وتتيح له هذه الهوية المستعارة أن يدخل بيوت القرية دون أن يُفضح سره، بما يعكس فكرة الهوية المركبة والمنقولة في سياق التهجير والشتات. كما أن اللحظة التي يرى فيها البطل والدته الطفلة، وأباه الطفل، تفتح على دلالات نفسية عميقة: رغبة في الحماية، في الشفاء من الجرح، في القول للأم والأب "أنا هنا، وأنا معكم"، ما يُضفي بعدا حميميا على الرواية.

 

التقنية السردية واستراتيجيات الكتابة
يلجأ الكاتب إلى تقنية "السرد داخل السرد"، حيث يُروى جزء من الحكاية من خلال الرسائل والمراسلات، وكذلك من خلال أوراق ودراسات أرسلها عاطف، ابن عمّ الراوي. هذه التقنية تُعزز من واقعية الحكاية وتكسبها بعدا وثائقيا، وتجعل القارئ مشدودا إلى احتمالية أن ما يُروى حقيقي.
يُكثر الراوي من إدخال الوثائق والتواريخ والأسماء والأماكن، ما يمنح النص بُعدا توثيقيا. كما أن الاسترجاع (الفلاش باك) حاضر بقوة، خاصة حين يستحضر الراوي من مخيمه في رام الله تفاصيل دقيقة من حياة قريته التي لم يعشها، لكنه عرفها من خلال الحكي العائلي.

 

دلالة العنوان
يبدو العنوان "السفر إلى كعكة القمر" في البداية غامضا أو شاعريا، لكنه يحمل دلالات متعددة: "السفر" هنا هو نحو الحلم، نحو الطفولة، نحو الجذور، أما "كعكة القمر" فهي استعارة لشيء نادر، جميل، وساحر، تماما كما هي القرية الفلسطينية التي سُلبت في النكبة. يوحي العنوان أيضا بطابع القصص الخرافية أو الأساطير الشعبية، وهذا يتناسق مع الطابع الفانتازي للرواية التي تستعيد ملامح الحكاية الشعبية الفلسطينية، وتعيد توظيفها في قالب سردي معاصر.

 

جدلية الحلم والواقع
رواية "السفر إلى كعكة القمر" وثيقة وجدانية تعبر عن شوق الفلسطيني إلى أرضه وتاريخه، وتعبّر عن المأساة بطريقة إنسانية مبدعة. ينجح الكاتب في الدمج بين التجريب الفني والحنين الوطني، بين التوثيق والمتخيل، بين الذاكرة والواقع، ليقدّم رواية فريدة على مستوى الموضوع والبنية والأسلوب.
يؤكد أسلوب زياد خداش في هذه الرواية مكانته ككاتب يمتلك حسا فنيا رفيعا، ووعيا ثقافيا وتاريخيا يجعله قادرا على تحويل تجربة شخصية إلى قصة وطنية وإنسانية بامتياز. الرواية، في جوهرها، دعوة إلى عدم النسيان، وإلى التمسك بالجذور، ولو عبر السفر إلى "الماضي".