تاريخ النشر: 19 تموز 2025

"لاموضي" التونسي .. عن "مافيا الأزياء" وفلسطين وأشياء أخرى!

 

كتب يوسف الشايب:

 

"لاموضي"، هو العنوان الذي اختاره المخرج التونسي الطاهر بن عربي، عنواناً لعرضه المسرحي الأحدث، واحتضنه مسرح الحسين الثقافي، مساء أول من أمس، ضمن فعاليات مهرجان ليالي المسرح الحر بدورته العشرين، في العاصمة الأردنية عمّان.

وحازت المسرحية على الجائزة الكبرى للمهرجان، ذهبية أفضل عرض متكامل، مساء أمس، في حين حصل المخرج بن عربي على جائزتي أفضل إخراج، وأفضل سينوغرافيا، متوجهة في اختتام المهرجان، كما كانت على الخشبة.
وتتمحور المسرحية التي تعني "الموضة" بالدارجة التونسية، حول ما يُمكن تسميته "مافيا الأزياء"، وصناعتها، التي تلعب دوراً محورياً في اضطهاد العاملين في هذا القطاع، لا سيما في سياق ما يصطلح عليه "الموضة السريعة"، وسلاسل التوريد المعقدة التي تعتمدها العلامات التجارية الكبرى.
وهذه "المافيا" لا تعني بالضرورة منظمات إجرامية بالمعنى التقليدي، وإن كانت قد لا تبتعد عن ذلك تماماً، بقدر ما تشير إلى الشبكات المعقدة والسرية من الشركات والمقاولين والموردين التي تعمل في الخفاء لتعظيم الأرباح على حساب حقوق العمال.
ويتطرق العمل المسرحي إلى هذا الجانب، عبر حكاية اختطاف شاب مبدع وخلّاق وسيدة تشتهر بصناعة الأزياء التقليدية، ووضعهما في مخيطة، مع توفير كل ما يلزم لهما، وتحت تهديد السلاح، الذي قد يطالهما داخل جغرافيتهما المحاصرة، أو عائلتيهما وأحبابهما خارجه، بهدف التعاطي مع بعضهما البعض للخروج بتصاميم مبتكرة، وبسرعة قياسية، فـ"الكبار لا يحتملون التأخير".
"لاموضي" التي مزجت بين أكثر من نمط أدائي، كالمسرح، والرقص المعاصر، والغناء، والسيرك بتنويعاته، بتميّز واقتدار، علاوة على فنون بصرية كالفيديو بتشكيلاته المختلفة، دون إقحام أو استعراض، تعالج مسائل مرتبطة بهذه المافيا، كصناعة كميات هائلة من الملابس بتكلفة زهيدة وبسرعة فائقة لمواكبة أحدث صيحات الموضة، و"التعاقد من الباطن"، وغيرها، ما يساهم في استدامة ظروف عمل غير آدمية للكثيرين حول العالم.
وعبر ما يمكن وصفه تجاوزاً بمسرح المهمشين، يكسر الطاهر بن عربي في "لاموضي" ذلك الحاجز بينه وبين الجمهور، شعورياً، وفي المشهد الأخير حين يذهب عدد من فريق المسرح لاصطحاب عدد من الجمهور بطريقة عشوائية لإشراكهم في اللوحة الختامية، وتحية الجمهور سوية، ما يشير إلى أن هذا التهميش يشمل الجميع، فالعمل يقدم مقترحاً جمالياً ذا مضامين مُبتكرة، في إطار تيار مسرحي يسعى إلى إعطاء صوت وتمثيل للفئات الاجتماعية التي غالباً ما تُستبعد أو تُهمل، أو تُنحّى موافقهم السياسية الوطنية، وحتى الأيديولوجية جانباً.
ويحمل العرض أيضاً بعداً فلسفياً، متكئاً على رمزيات مبسطة إلى حد ما، وتكسير حواجز الزمكان، واعتماد العناصر غير التقليدية في تقديم مضامين العمل، وهو ما كان بتميّز أيضاً، علاوة على شيء من الارتجال والتلقائية، تبدّت في بعض لوحات العمل.
ولم تغب فلسطين عن العمل، التي اغتالتها "مافيا الأزياء"، كما تقوم قوات الاحتلال، اليوم، في كامل جغرافيّتنا، والجغرافيات المجاورة، فتم الحديث عن مجزرة "حمّام الشط" الشهيرة، التي امتزج فيها الدم الفلسطيني بالتونسي، حين استهدف "الكيان قيادات فلسطينية في قلب تونس"، وعمّا يحدث من مجازر في قطاع غزة، وفي جنين، وعموم فلسطين، مع أغنيات حيّة تعبّر عن هذا الواقع الذي هو انعكاس لفكر وإيمان الشاب العبقري الذي يُختطف ويُهدد بابنته بل ويطلقون النار على إحدى قدميه، بحيث يبدو على عكاز حديدي كما حال الكثيرين في القطاع المحاصر منذ قرابة العقدين.
وكان ثمة لوحتان، إحداهما معاصرة تقدم عرضاً حداثياً بالثوب الفلسطيني لعارضة تحمل النيران على رأسها، ثم تطفئها شعلة تلو الأخرى في جسدها من فمها، قبل أن تخرج أخرى بالثوب الفلسطيني المطرز الأصيل، لكن سرعان ما يتم اغتيالها قنصاً، ومن ثم تكفينها، وكأن "مافيا الأزياء"، التي هي جزء من كارتيلات سياسية اقتصادية وأكبر، تريد الكفن الأبيض ثوباً جديداً غير مطرّز يرافق حيوات الفلسطينيين، أو موتهم، فالأمر سيّان هذه الأيام، وهو ما لم يغفله العرض الذي يمكن وصفه بـ"المبهر".
وهنا لا يجب إهمال مجموعة الممارسات الممنهجة والعلاقات المعقدة داخل عوالم صناعة الأزياء العالمية، خاصة الكبرى منها، والتي قد تساهم بشكل مباشر أو غير مباشر في دعم الاحتلال الإسرائيلي، بحيث إن بعض الشركات قد يكون لديها مصانع، أو متاجر، أو مورّدون في المستوطنات.
وفي الإطار نفسه، يمكن الحديث عن قيام بعض العلامات التجارية في عالم الأزياء أو أصحابها بتبرعات مالية لمؤسسات أو منظمات لها علاقات قوية بالحكومة الإسرائيلية أو تدعم الاحتلال بشكل مباشر أو غير مباشر، في حين أن بعض العلامات الكبرى قد تكون لها علاقات مع جماعات ضغط مؤثرة تدعم إسرائيل في الساحات السياسية الدولية.
وليس بعيداً عن هذا العالم، تلك الحملات التسويقية المثيرة للجدل، والتي تناولتها "لاموضي"، بشكل أو بآخر، فيما يتعلق بحقوق الشعب الفلسطيني، والشعوب المبادة الأصلانية، كما حدث في الولايات المتحدة الأميركية وغيرها، علاوة على استبدال الوجوه الفلسطينية بوجوه إسرائيلية، كما حدث مع عارضة الأزياء الفلسطينية العالمية المؤثرة بيلا حديد، في وقت كانت تسعى فيه بعض المبادرات في صناعة الأزياء لجمع مصممين أو عارضين إسرائيليين وفلسطينيين تحت شعار "الموضة توحّد الشعوب"، وتهدف إلى طمس حقيقة الاحتلال.
ورغم بعض التكرار في تقديم المضامين ذاتها بطرائق مختلفة، وأحياناً متقاربة شكلانياً أيضاً، ما أدى إلى إطالة قد لا تكون مبررة، يبقى "لاموضي" عرضاً استثنائياً لجهة مضامينه، والشكل المبهر والمدروس في تقديم هذه المضامين.