تاريخ النشر: 17 تموز 2025

مسرحية "حمّام الهنا".. انتصار فنّي محمول على أكتاف "المهزومين"

 

كتب يوسف الشايب:

 

يمكن وصف مسرحية "حمّام الهنا" للمخرج هشام سويدان، بأنها تجريبية وتجريدية وحداثية في آن، علاوة على كونها تؤسس لمسرح واعد في الأردن، يقوم على رؤى عميقة في مضامينها وأشكال التعبير عنها على الخشبة، لفنانين شباب لا يمتلكون الحماسة فقط، بل الثقافة المسرحية.
والمسرحية التي عرضت ضمن المسابقة الرسمية للنسخة العشرين لمهرجان ليالي أيام المسرح الحر الدولي، في العاصمة عمّان، تجريبية لكونها تشكل محاولة لاستكشاف أشكال جديدة، وتقنيات مغايرة، وأساليب غير نمطية في تقديم عرض مسرحي، فيه خروج عن المألوف والمعتاد أو المتداول، بهدف إيجاد طرق مبتكرة للتعبير الفني، أو لمعالجة القضايا بطرق لم تُستخدم من قبل، وهو ما كان إلى حد ما، علاوة على أن العرض شكل تمرداً على القواعد الثابتة برفضه الالتزام بالقواعد التقليدية الكلاسيكية في الكتابة، والإخراج، والسينوغرافيا، وحتى الأداء، لتقدّم "حمّام الهنا" بذلك لغة مسرحية فيها من الجدّة، المستوحاة من الجديد والجديّة في آن، ما جعلها قادرة على استفزاز الجمهور فكرياً وعاطفياً، وإقحامهم في دائرة أو ربّما حفرة من التفكير النقدي، في دمج ذكي ما بين الواقعي والرمزي.
و"حمّام الهنا"، التي دشنت عروض المسابقة الرسمية على خشبة مسرح الحسين الثقافي، مسرحية تجريدية أيضاً، لكونها اعتمدت أسلوباً فنيّاً جماليّاً، بعيداً عن المحاكاة الدقيقة للواقع المرئي أو المسموع، بهدف التركيز على الجوهر، والفكرة، والشعور، باستخدام عناصر رمزية تدفع بالمتلقي إلى ما راء المشهدية الماثلة أمامه، وما وراء السرد النصي والأدائي، وما وراء المباشر فيها، باعتماد أشكال، وأصوات، وألوان، وحركات، للتعبير عن معانٍ أكثر عمقاً من برّانية المعروض على الخشبة، في تركيز على الجوهر لا المظهر، دون الاعتماد على حبكة خطية واضحة و/أو متسلسلة.
وهذه الحبكة تجعل من "حمّام الهنا" مسرحية حداثية تسعى لتقديم رؤى فنية وفكرية جديدة تشكل مرآة أو مرايا للمُعاش بكل تعقيداته، وفي هذا الاتجاه، اتجهت إلى البحث عن "الجمعية" عبر بوابة "الذاتية"، فكل من أصحاب الحكايات الذكور في العمل يمتلك عدسته الخاصة التي ينظر بها إلى العالم، والتي تشكلت عبر تراكم ما مرّ به على مدار سني عمره، ما كبر منها وما صغر، فالمسرحية الحداثية تنحو إلى استكشاف العوالم الداخلية للشخصيات في الوعي واللاوعي، مهمشة كل ما يتعلق بالحبكة الدرامية، وكسر القواعد الكلاسيكية بحثاً عن ابعاد جديدة في الأداء والتعبير، مفردة مساحة أكبر للسينوغرافيا بتكوينها المتعددة، وللمخرج الذي هو سيّد العمل الحديث لا النص.
والعمل الجريء بمضامينه، يحاكي حالة الهزيمة الجوّانية لعدد من الذكور في "حمّام" تركي أو شامي، بهدف "التنظيف"، جراء تلك العلاقات المتشابكة حد التماهي أو التنافر في الوقت ذاته، في التعاطي مع العائلة، والحبيبة، والمجتمع، وحتى النظام السياسي، أو الأمني، فالكل مهزوم في "حمّام الهنا"، وإن انتصر العمل فنيّاً على المستوى الشكلاني والمضاميني.
ويحسب للعمل مخرجاً وفريقاً، أنه تمكن عبر الذاتية المحورية فيه، من التعبير عن حالة جمعية ما، لها تأويلاتها، التي تختلف باختلاف المتلقي لصورة بصرية عميقة تشكلت فيما يشبه "البَزِل"، وهذا يعود إلى كون معالجة الحكايات المسرودة جسداً وكلمات، ورغم الذاتية التي تغلفها، كانت متقنة وصادقة، بحيث شكلت نافذة على تجارب إنسانية عالمية أو مشتركة، فالحمّام هو كل جغرافيا العالم، وهو المظلة الأكبر للتطهر.
وقدّمت مسرحية "حمّام الهنا" منظورات ذاتية متعددة ومختلفة تندرج في إطار مُوحَد ومُوحِد، أي "الخذلان" و/أو "الهزيمة" في هذه الحالة، فعبر تجميع هذه الذوات المتنوعة يتشكل لدى المتلقي فهم أكثر شمولية للحالة الجمعية، ولكن دون فقدان الذاتانية، بل عبر توظيفها لرسم صورة أكثر شمولية، باستخدام مجموعة من الذوات الفردية وحكاياتهم.
ورغم المبالغة في الأداء (Overacting) لدى بعض الفنانين في بعض لوحات المسرحية، ورغم خروج قطار الصوت، وأحياناً الإضاءة عن سكة العمل، يبقى العمل تأسيسياً، لكونه يقدم شباباً يحملون رؤى إخراجية، وقدرات تمثيلية، وأكثر من ذلك، ما يجعل البناء على "حمّام الهنا" خطوة ضرورية لجهة بناء مسرح أردني حقيقي ومُتجدّد.