تاريخ النشر: 09 تموز 2025

"إلى عالم مجهول".. سردية سينمائية من سيرة لجوء فلسطينية تتواصل!

 

كتب بديعة زيدان:

 

استقبل فيلم "إلى عالم مجهول" للفلسطيني الدنماركي مهدي فليفل باحتفاء كبير في مهرجان عمّان السينمائي الدولي، بالعاصمة الأردنية، أول من أمس، وهو الفيلم الروائي الطويل الأول لصاحبه، بعد سلسلة من الأفلام الوثائقية القصيرة والطويلة، كان من أبرزها "عالم ليس لنا" الذي حصد العديد من الجوائز.
تدور أحداث الفيلم حول شابين فلسطينيين، "شاتيلا" و"رضا"، يصلان إلى العاصمة اليونانية أثينا بطريقة غير شرعية، بعد فرارهما من مخيم في لبنان، مغامرين بحياتهما وهما يلاحقان حلمهما بالوصول إلى "جنة الغرب"، وخاصة ألمانيا، بحثاً عن حياة كريمة.
يواجه الشابان صعوبات جمة، بما في ذلك استغلال طالبي اللجوء، ومخاطر الإدمان، واليأس الذي يلاحقهم، فعندما يفقد الاثنان أموالهما التي جمعاها بشق الأنفس بسبب إدمان "رضا" المخدرات، يعدّ "شاتيلا" خطة تتضمن انتحال شخصية مهربين في محاولة لإخراج نفسه وصديقه من بيئتهما اليائسة.
يتميز الفيلم بقصته الواقعية، حيث يستند إلى تجارب حقيقية للهجرة غير الشرعية ومعاناة اللاجئين، ويعكس بصدق وقسوة في آن، الواقع دون تجميل أو تزويق، بما يظهر التغريبة الفلسطينية بنسختها الأحدث، علاوة على الشتات والقهر واليأس وعدم الاستقرار، الذي لم يعد يقتصر على الفلسطينيين فحسب، وإن لا يزال يطاردهم منذ نكبة العام 1948، خاصة مع حرب الإبادة المتواصلة على غزة، وتهجير مخيمات شمال الضفة، والجرائم الاحتلالية اليومية في كامل الجغرافيا الفلسطينية.
يمثل "شاتيلا"، ويجسد دوره الفنان محمود بكري، شخصية قوية تحاول التحكم في مصيرها، على الرغم من الظروف القاسية، وهو الدور الذي حصد عنه بكري جائزة أفضل ممثل في مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي بجدّة بالمملكة العربية السعودية، في حين يمثل "رضا"، ويجسد دوره الفنان آرام صبّاح الجانب الأكثر هشاشة وانكساراً للمهاجر، لذا يلجأ إلى المخدرات للهروب من واقعه المؤلم.
يمكن وصف الفيلم الذي هو من إنتاج مشترك فلسطيني بريطاني فرنسي يوناني هولندي ألماني قطري سعودي، بأنه مزيج من الدراما والإثارة، يطرح قضيته وحكاياتها بلغة سينمائية واقعية مغلفة بنظرة إنسانية عميقة، خاصة ما يتعلق بالعلاقات بين الشخصيات.
الفيلم الذي حظي باهتمام دولي كبير، ونافس في مسابقة "نصف شهر المخرجين" في مهرجان كان السينمائي 2024، وشارك في عشرات المهرجانات حول العالم، وحصل على أكثر من عشرين جائزة في مهرجان عالمية، يكتسب أهميته لاعتبارات عدة. فهو يسلط الضوء على قضية إنسانية عالمية، ولا يقتصر على كونه قصة فلسطينية بحتة، بل يتجاوز ذلك ليلامس قضية الهجرة غير الشرعية واللجوء التي تعاني منها شعوب كثيرة حول العالم، ويعكس التحديات الجسيمة التي يواجهها الأفراد اليائسون في رحلة البحث عن حياة كريمة، وكيف يمكن أن يتحول هذا الأمل إلى كابوس مليء بالاستغلال، واليأس، وهذا التناول العالمي يجعل منه ذا صلة وصدى لدى جمهور واسع، بغض النظر عن خلفياتهم.
ويتميز الفيلم بجرأته في تقديم الواقع دون تلطيف، بحيث لا يقدم صوراً رومانسية عن الهجرة، بل يغوص في تفاصيل الحياة القاسية لـ"شاتيلا" و"رضا" في أثينا، ما يمنحه مصداقية عالية تجعل المشاهد يتعاطف، على إثرها، مع الشخصيات، ويشعر بمرارة تجربتهم.
كما يقدم الفيلم وجهة نظر مختلفة عن أوروبا كـ"جنة" لطالبي اللجوء، بحيث يكشف عن الجانب المظلم والمخفي من رحلة اللجوء، حيث لا يجد المهاجرون الحماية أو الرعاية التي يتوقعونها، بل يقعون فريسة للاستغلال والتهميش، ما يثير أسئلة مهمة حول سياسات الهجرة الدولية ومسؤولية الدول المضيفة.
جدير بالذكر أن عديد النقاد اعتبروا الفيلم علامة فارقة في مسيرة مهدي فليفل كمخرج، خاصة بعد نجاحاته في الأفلام الوثائقية، بحيث ينتقل بسلاسة إلى عوالم الفيلم الروائي الطويل، محافظًا على أسلوبه الواقعي والمؤثر في آن، مظهراً قدرته على المزج بين الدراما والإثارة، وتقديم قصص إنسانية عميقة، تؤكد موهبته، وتجعل منه مخرجاً فلسطينياً مهماً في الساحة السينمائية العالمية.