تاريخ النشر: 25 آذار 2025

دردشة مع الكاتبة نسب القاسم: الهموم العامة جزء من همومي الخاصة

 

حاورها زياد خداش:


لم أرَ كاتباً يعشق القدس كما تعشقها نسب القاسم، هذا التعلق ليس فقط على مستوى النص والانشغال الأدبي، أتحدث عن الحياة والتنفس والذوب في الأمكنة حد العجز عن تحديد الحدود، تتنفس نسب القدس كما تتنفس هواء الحياة، ولو تأملنا صورة القدس في كتاباتها، لوَجدناها أبعد وأعمق من قضية وطنية عادلة وسيادة وحق فلسطيني لا يجادل عليه الا الغزاة، القدس بكامل روائحها، وناسها وفقرائها وبسطائها وأصواتها وأمكنتها وتناقضاتها وجراحها وطيشها، موجودة بشكل طبيعي دون إقحام في أدب كاتبتنا التي ولدت في قرية الرامة الجليلية، وتقيم في القدس.
قوة الشعر في نثر نسب القوي، يشي بصراع جمالي لطيف بينهما، لكن لا أحد من قرائها فضل الفصل بينهما، فالتشكيلة اللغوية المدهشة لعبارتها هي مزيج من ايقاع لطيف وفكرة ملفتة.. هذه دردشة مع نسب:

 

* تعيشين في القدس التي لها دور كبير في صياغة روحك ونصّك.. هل هذا الوصف دقيق؟

- للقدس حيزٌ كبير في رسالتي وهويتي، ومكانة كبيرة في قلبي، لذا أنتسب إليها باختياري، وأمنحها جزءاً من عمري وطاقاتي. كرّستُ وأكرّس الكثير من كتاباتي عنها وعن قضاياها، فهذه هي طريقتي للدفاع عن هوية المدينة وللتعبير عن حبّي لها.

 

* هل تتذكرين لحظة الالتحاق بقطار الكتابة؟ هل من لحظة برقية ما؟ كتاب أو شخص أو حلم أو حدث؟

- مارستُ الكتابة وتأليف القصص بالرسم وروايتها منذ الطفولة، قبل أن أعرف كيف أخطّ كلماتي الأولى، ونمت موهبتي بعد أن عرفتُ القراءة والكتابة. نشأتُ في بيئة، الكتابة والتأليف فيها حدثٌ طبيعي، من عمل أبي على كتابه وإصدارات كتبٍ لأعمامي، لذا كانت مسألة إصدار كتابي الأول هي مسألة وقت، ومن جانب آخر تحدٍّ للموت، الذي خطف أبي في طفولتي.
القرار أن أكون كاتبة تبلور في خاطري، إذ رأيته سؤالاً ضمن إعلان في صفي في المدرسة، حين كنت في الصف السابع. وجدتني أجيب على السؤال المدون في الإعلان حالاً، وأقول لنفسي: نعم هذا ما أريده، أريد أن أكون كاتبة. ومنذ ذلك الحين وحتّى اليوم، أعمل بجدٍّ كبير لتحسين أدواتي وقدراتي كي أكون ما أردت.
محاولاتي الأولى كانت في إعداد كتابين أحدهما قصص طويلة والآخر كتاب جغرافيا، وأنا في المرحلة الإعدادية، لم أنجح أن أخرجهما إلى النور وكاد ذلك يحطمني. لكنّني أصررت، وجاءت محاولتي الثالثة، بكتابة روايتي الأولى "الحياة الصاخبة" وأنا في الخامسة عشرة من عمري، رأت النور بعد كتابتها بثلاث سنوات بموازاة تخرجي من المدرسة. وكنتُ أظنُ أنّها حين ستصدر، أنّي سأنتهي، وسأكون قد قلتُ كلّ ما لديّ. لكن حين صدرت شعرتُ براحة كبيرة، ولاحت أفكار في مخيلتي لكتبٍ أخرى، فأدركت أنّي سأعيش وسأستمر، والحمدلله أنّ هذا ما زال يحصل بعد كلّ احتضان لكتاب جديد. هكذا تحوّلت الكتابة إلى ترجمة الأفكار والخيال إلى حقيقة مدونة، وكذلك إلى أسلوب حياة.

 

* لديكِ التزام حديدي بهموم البلاد العامة لم ألحظ همّاً شخصياً في نصوصك. هل هذا هو نسيان للذات في خضم عواصف البلاد؟

- أعتقد أنّ هذا الوصف ليس دقيقاً؛ أظن أنّي أكثر مَن ظهرت همومه وحياته الخاصة، بين الزملاء من الكُتاب من أبناء جيلي، في كتاباته. خاصة بتوجهي إلى أنواع أدبية مثل اليوميات، وأخرى توثيقية، تطلّبت خطاباً صريحاً ومباشراً. بعض الهموم الشخصية ظهرت بشكل مباشر في نصف إصداراتي الثمانية، اليوميات (أسرار أبقتها القدس معي، 2016)، قصائد ونصوص (هواجس الماء.. أمنيات الزبد، 2017)، البحث الاجتماعي التاريخي (الرامة.. رواية لم تروَ بعد، 2020) ورسائل (رسائل فوق المسافات والجدران، 2022). وفي الإصدارات الثلاثة القصصية الأولى ظهرت بعض هذه الهموم بشكل غير مباشر. أكبر همٍّ كتبت عنه كثيراً وفي أشكال أدبيّة متعددة هو "اليُتم"، كانت الكتابة وسيلة مهمّة لعلاج روحي من فقد أبي في الطفولة. كتبتُ عن ألمي، وعن أبي، حتّى وصلت إلى وصف أنّي أنجبته عبر الكتابة بإصدار كتاب الرامة والرسائل. وأخيراً أستطيع أن أقول أنّي تجاوزت هذه المسألة وهذا الجرح، وحصلت هذه المصالحة على مراحل، طيلة ثلاثين عاماً على فقده.
من جانب آخر الهموم العامّة هي جزء من همومي الخاصة، فحين أكتب عن الجدار الفاصل أو الحواجز وصعوبات قطعها، فهذا نابع من تجربة شخصيّة وحياة يومية أعيشها وأصدقائي، وحين أكتب عن الحرمان من التواصل وحلم العودة وهمّ الفرقة عن الوطن، هذا جزء من فراقي عن أخوالي، ومسألة كونهم لاجئين في لبنان، وحين أكتب عن غزة أو عن طولكرم أو الخليل فأنا أكتب عن واقع حياة أصدقاءٍ وإخوة تربطني بهم علاقات شخصيّة، وينقلون لي هموم مناطقهم. وقضايا كثيرة أخرى قد تبدو انشغالاً بالهمّ العام والواقع، لكنّني جزءٌ حيٌّ من هذا الهم والواقع.

 

* ما هو الكتاب الذي ما زلت تقرئينه وفي كل قراءة تتفاجئين؟

- القرآن الكريم؛ في كلّ قراءة تدهشني اللغة والمعاني.

 

* ماذا يعني أن يكون الإنسان من أقارب الشاعر سميح القاسم؟

- أحببتُ عمي سميح كثيراً، وكان تعامله معي تعامل صداقة خاصة خلال أحاديثنا في سنواته الثلاث الأخيرة، فترة مرضه. تقبل رحيله كان صعباً جداً عليّ، رغم أنّنا أعددنا أنفسنا في العائلة لعدّة سنوات لهذا الاحتمال، لكن يمكن القول أنّه أول شخص حتّى ذلك الحين، شعرت بثقل وعظمة فقده بهذا القدر، من بعد رحيل أبي. فقده شديد الوطأة على مستوى الخاص من مكانته في حياتي إلى مكانته في العائلة، ومكانته في القرية والوطن.
إجمالاً أرى أن القرابة بعلم من أعلام الوطن، تبني اجتماعياً طريقاً ممهدة، يمكن للمرء أن يلجها بأمان أكبر، خاصّة في حالة كوني شابة منتقلة في سن صغيرة من بيئة اجتماعية صغيرة وحاضنة، إلى بيئة جديدة بعيدة وكبيرة وتحت سياسات وظروف مختلفة.
في الجانب الأدبي أدقّ وصف يمكن قوله، أنّ هذه القرابة رفعت سقف الطموح. كانت لديّ دربي التي شققتها وسط تحديات حياتية صعبة، وحين بدأت كلمتي تبرز لاقيتُ ثناء عمي سميح الذي لطالما أكّد أنّه لا يجامل، فمنحني التشجيع والنصائح الثمينة، وأدركتُ من خلال تجربته، كم يمكن للمرء أن يصل بعيداً بصوته حتّى لو كان من قرية صغيرة بعيدة! في الوقت نفسه هذه القربى مسؤولية، في أهميّة تقديم رسالة أدبية ثقافية، عميقة المحتوى وإبداعية الصياغة.

 

* في كتابك "الرامة.. رواية لم تروَ بعد".. رويتِ أنت ود. أديب القاسم حسين حكاية قرية فلسطينية جليلية. إلى أيّ حد ألهمتك القرية وشكّلت بصمتك الاجتماعية والجمالية؟
- طبيعة نشأتي في الرامة بما تحمل من تعدديات، لها أثر كبير على رؤيتي الاجتماعية. نشأتُ في بيئة متعددة ثقافياً ودينياً، فكان الطبيعي بالنسبة لي وجود الاختلافات بيني وبين محيطي، دون أن يشكّل هذا مشكلة في وجود علاقات مقرّبة جداً. حتّى في وقت الأزمات حين حصلت مشاكل كبيرة بين الطوائف، لم يكن هناك تعميم في بيتنا، إنّما نظرة إلى المشكلة العينية. طبعاً الأمر لا ينطبق على الجميع في القرية، في النهاية موقع سكنك في القرية، العلاقات العائلية، التجربة الخاصة، كلّها لها أثرها في تشكيل نظرة التقبل.
بالنسبة لي شخصياً، نظرتُ دوماً إلى القرية كلّها على أنّها بيتي، وبالتالي التعامل مع محيطي على تنوعه، كعائلة.. هذه النشأة انعكست في رؤيتي وتعاملي عامة، وقدرتي على التفهم والتقبل وعيش حياتي الاجتماعية اليومية بسلاسة بين القدس والرامة والضفة الغربية.
الجانب الجمالي، وخاصة الجمال الطبيعي، تشكّل في عدّة أماكن خاصة أنّ طفولتي توزعت بين بلاد مختلفة في الوطن والخارج، لكنّ الرامة كانت مكان الاستقرار والعودة، وإجمالاً ما بين جبلها وبحر عكا، كان الانحياز للجبل. كنتُ على وعي برحابة المدى، وجمال الطبيعة، قضيتُ أوقاتاً طويلة يومياً في فترة فتوتي، متأملة من على سطح بيتنا، أو في أرضنا.
بنى لي هذا قدرة خيالٍ كبيرة، ساعدتني في سنواتي الأولى في الكتابة. حالياً يبقى لجبلنا "حيدر" مكانته في نفسي لترميم روحي، تسلق الجبل والخوض في شعابه وخلجاته، والإطلالة من بين الزيتون على سهل الرامة وامتداد الجبال والقرى في الجنوب، وعلى بحر الجليل في الشرق، يجعل روحي تصعد من تيه وقعر الحرب وارباك الحياة اليومية، لتحلّق في واحدة من أجمل الإطلالات في الوطن.

 

* ما هي الأسرار التي لم تبقها القدس بحوزة أحد؟
- سرُّ جذب عشاقها، وقدرتها على الصمود أمام كلّ ما مرّت به من احتلالات ومحاولات تدمير، منذ خمسة آلاف عامٍ وحتّى اليوم.
بالقدس بدأ حوارنا وبالقدس نختمه، ولعلّ واحدا من أكثر الأمور التي تسعدني حين أطلّ أن يلوح سؤال القدس في البال، وهذا سرٌ سعيدةٌ أنّ القدس منحتني إياه.