
كتبت بديعة زيدان:
"عصفور الشمس"، هو اسم الشخصية التي اتخذها الفنان الفلسطيني رأفت لافي لنفسه، كما شكل عنواناً لعروضه كحكواتي في الأمسيات الرمضانية في العاصمة الأردنية عمّان، على مدار ليالي الشهر الفضيل، متنقلاً بين مواقع مختلفة، لينقل حكاياته في كل مرّة إلى جمهور غير سابقه، مع التركيز على فئتي الأطفال واليافعين.
الفنان الذي جسد دور مقاوم في مسلسل "الاجتياح" الفائز بجائزة "إيمي" العالمية في العام 2008، بدأ حكاياته، في عرض أول من أمس، بالمركز الثقافي الملكي في عمّان، بالتعريف بشخصيته الافتراضية، قائلاً: "أنا عصفور الشمس، جاييكم من زمن البلاد، جايب معي حكايات الأهل والأصحاب، حكايات البيدر والحصيدة ومواسم الزيتون، وأهازيج الأفراح والأعراس، وزغاريد صبايا البلد، وحنّة العروس زينة الصبايا، وابن عمها ينزلها عن الفرس، وطوابير الولاد الصغار في الحواري، بيغنوا: رن رن يا جرس.. محمد راكب ع الفرس".
وأشار الفنان رأفت لافي في حديث خص به "الأيام" إلى أن "عصفور الشمس الفلسطيني ليس مجرد طائر، بل رمزٌ للهوية والصمود، فهذا الطائر الصغير يمتلك قدرة هائلة على التأقلم والمقاومة، تماماً كما يفعل الفلسطيني الذي يتمسك بجذوره رغم كل التحديات، كما ان وجوده في الطبيعة الفلسطينية يعكس استمرارية الحياة والارتباط بالأرض، فهو لا يهاجر، بل يبقى محلقاً بين أشجار الزيتون والحمضيات، راسخاً مثل الحكاية الفلسطينية التي تنتقل عبر الأجيال، مؤكداً: اختيار "عصفور الشمس" ليكون الراوي الحكواتي يعزز فكرة أن الحكاية ليست مجرد كلمات، بل حياة تتنقل بين الألسن، تنقل التاريخ، وتحفظ الهوية، وتقاوم النسيان كما يفعل هذا العصفور الذي يظل يغني رغم القهر والاحتلال.
وأطلق الحكواتي "عصفور الشمس" بعدها، العنان لحكاية تلو الأخرى، فكان الجمهور، وخاصة الأطفال، على موعد مع حكاية التاجر صاحب الأربعين جملاً، وكان ينقلهم يومياً إلى المدينة ويحملّهم بـ"كل ما تشتهيه الأنفس" إلى حيث بلدته، حتى تفاجأ ذات عودة أن حرباً اندلعت في مسقط رأسه، فعاد وجماله خالية من أحمالها، ليلتقي بعجوز يخبره بكنز لديه، ويعرض عليه إخراجه وتحميله على جمال التاجر، مقابل أن يتقاسما الكنز والجِمال، وهو ما كان، قبل أن يفترقا كل في اتجاه، إلا أن التاجر يطمع بعشرة جمال أخرى، ومن ثم بكافة الجمال بما تحملها من كنوز، وهو ما يوافق عليه المسن، متسلحاً بمرهمه السحري الذي ما أن يضعه على عينه اليسرى حتى تتكشف له مخابئ كنور الأرض، وحين وضعه التاجر على عينه اليمنى أصبح ذا نفوذ وسيطرة، متجاهلاً تحذير الشيخ بعدم وضع المرهم على كلتا العينين في الوقت ذاته كي لا يطاله العمى، لكن "الطمع ضرّ ما نفع".
ولفت لافي لـ"الأيام" إلى أن "للأطفال اختار قصص مستوحاة من تراث المنطقة، وخاصة التراث الفلسطيني والأردني، مثل حكايات الجدات والأساطير الشعبية، لتغرس فيهم القيم والهوية، أما للكبار، فيتم اختيار القصص التي تلامس القضايا الوطنية والاجتماعية، مثل اللجوء والمقاومة والصمود.. أحياناً يكون الهدف تثقيفياً، كتعريف الأجيال الجديدة بتفاصيل الحياة في فلسطين قبل النكبة، وأحياناً يكون الهدف تحفيزياً، كقصص الأبطال الشعبيين الذين تحدوا الظلم".
وكانت الحكاية الثانية حول رجل "محتال" توجّه إلى "مختار القرية"، رفقة زوجته وحمارة لتأمين مأوى لهم، وهو ما كان، ليتضح أن صرّة من الذهب كانت بحوزته وزوجته، فرّغوها في بطن الحمار، قبل أن يعرضوه للبعض بألف دينار، باعتبار ما أن صفعته حتى يُخرج ذهباً، وبالفعل ابتاعه تاجر، وتوجّه به فرحاً إلى منزله، ليفرغ المال بعد ثلاثة أيام دون أن يحقق الندر اليسير من ثمنه، ثم يعاود الخديعة، ليبع كلب بدعوى قدرته على الحديث بمبلغ كبير أيضاً، قبل أن يفتعل الزوجان شجاراً ويتظاهر أنه يطعنها بسكين، ويعيدها إلى الحياة بـ"زمّيرة" اقتناها ثالث بمبلغ كبير، لكن زوجة المشتري لم تستفيق منذ الطعنة الأولى، فاضطر لإخفاء الأمر عن البقية خشية اتهامه بقتلها، لتتنقل الآلة السحرية المفترضة من منزل لآخر، حتى خلت القرية من كل نسائها اللواتي ذهبن ضحية غباء أزواجهن، ليقرر الرجال رميه في البحر، ويفعلون واهمين، حيث يدعي عند مشاهدته لدى عودتهم حيًاً، أن حورية البحر أنقذته وقدمت له قطيع غنم، فيذهب الجميع إلى البحر الذي ابتلعهم كلّهم.
وشدد لافي في ختام حديثه لـ"الأيام"، على أن "الحكواتي ليس مجرد راوٍ للقصص، بل حاملٌ للرواية الفلسطينية التي تتعرض لمحاولات الطمس والتشويه"، وعلى أن "الحفاظ على هذا التقليد يعني حماية التاريخ الشفوي الفلسطيني، فالرواية الشفوية تنقل تفاصيل الحياة الفلسطينية قبل الاحتلال وبعده، وتحفظ شهادات اللاجئين والمهجرين والصامدين على أرضهم أيضاً".