تاريخ النشر: 18 آذار 2025

"إنكَ ذاهب إلى البار".. سردية اللايقين!

 

كتبت بديعة زيدان:

 

قال توماس إديسون يوماً: "كي تخترع، فأنت بحاجة إلى مخيّلة جيّدة وكومة خردة"، وهذا ما فعله تماماً المصري يوسف رخا، في روايته "إنكَ ذاهب إلى البار"، الصادرة عن منشورات المتوسط في إيطاليا، مؤكداً على ما سبق وأكده من قبله المهاتما غاندي بأن "الابتكار ليس فقط في اكتشاف أشياء جديدة، ولكن أيضاً في رؤية أشياء تختلف عما هي عليه".
في روايته هذه يقدّم لنا رخا أدباً جديداً، يدفعك على إطلاق شهقة تلو الأخرى من فرط الدهشة، وكأنه يلهو مع القارئ، ومع شخصياته التي تتوحد في كونها تتبدى كما الأبطال المهزومين القابعين في زوايا بعيدة ليس بالضرورة هادئة، يعيشون أو يموتون، فالفعل سيّان في زمنٍ مبتور.
في ذهابه أو ذهابكَ أو ذهابكِ أو ذهابنا الحقيقي أو المتخيل إلى "البار"، يتأرجح ونشاركه تأرجحه ما بين واقع وسراب، كما هو حال شخوص الرواية المفرطة في التقنية السينمائية لغة، والتصوير الشِّعري، ففي حالة دائمة من اللايقين، يبدو كأنه أو كأنك أو كأننا جميعاً في حلم، يتحدث عن شخوصه بمن فيهم "نايف"، الراوي غير العليم، بلغة المخاطب، وهو ما كرّسه منذ العنوان في "إنك"، وليس "إنني"، ليصنع منك كقارئ جزءاً من الحدث الذي لا يكتمل، فتقطعه الـ "تشششش خخخخ يييييييييييي تتتشششششششششششششش تشش ييييييييييييييير تتتتتتتتتتتتتتس".
وما يحدث مع "نايف" في الحكايات المشوشة، التي تقفز على سلم هلامي من قصص مبتورة الأطراف، يبدو قلبها خارج جسدها، وعقلها في مكان آخر تماماً، ينسحب على "أمجد صلاح"، و"باولو"، وغيرهما، وجميعها شخصيات تبدو مستنسخة عن بعضها البعض، بصورة ما، وفي الوقت ذاته، بحيث تتوازى في رحلة البحث عن طريقة لإكمال سردية لا تكتمل، فهم يبدون مسوخاً في حياة مليئة بالهزائم الجوّانية والبرّانية، تقبض عليهم أمراضهم النفسية، ويبحثون عن حب، لم يخلُ من عطبٍ أيضاً، أو يتسلل إليه العفن، من أسفله أو أعلاه أو جوانبه ربّما، ليغرفوا منه، بل ليغرقوا فيه ويبحثوا عن الكثير من الموسيقى، التي تلّون خلفيات "البار" كما الرواية، بما يفيض عن لون بابه الأخضر، وبأنماط غير مألوفة، لعلهم ينجون، من جرح في باطن الكف، وضجيج المرور بجنائزية كل شيء، أو بكاء لا يفارق حلوقهم، أو انتحاب لمن فقدوا ذاكرة لم تعد قادرة على استرجاع أسباب الحزن حتى، فـ"إنكَ ذاهب إلى البار"، رواية حداد، لمن وعلى من "نسي الدنيا بما فيها الشيء الذي فقده"، ولا يتذكر إلا البكاء فحسب.
السرد المتقطع اللاهث الذي يبدو ثملاً، وتتملكه الحمى أحياناً، يتماهى مع واقعنا ويوميّاتنا، وما يدور من حولنا، أو ندور حوله، وهو سرد تمتزج فيه الحوارات الداخلية بالأحداث وخيالات الراوي، الذي ما هو براوٍ هنا، كما تختلط فيه الأزمنة أو تذوب، لتعود إلى البداية الأولى، وليست هي دائماً ذات البداية، وإن تجدد الفعل ذاته، أي "إنكَ ذاهب إلى البار".
هو مشوار غامض في كل مرّة لـ"نايف"، الذي يعرفّنا باسمه في منتصف الرواية المكثفة، والمليئة بالتأويلات والإحالات والرموز، لتحتمل كل التصنيفات وتفرّعاتها، إلى "بار مون"، الذي يذهب إليه عبر ممر ضيق، كأنه "البرزخ"، أو المصعد الناقل هبوطاً أو صعوداً ما بين عالميين لا يقينيين، أو مفرطين في اليقينية، مثقلاً بإحساس يجعل منه بطلاً مأساوياً، أو مهرجاً، لكنه، وفي كل مرّة، لا يذهب أو تذهب أو نذهب إلى "البار"، كي "يكربع" كؤوساً تجعله خارج لا جاذبية واقعه ذي المذاق المرّ، بل ليحاور ذاته، عبر الآخرين المنصهرين فيه، والمنصهر فيهم، وكأنه أمام مرآة تجعله يرى نفسه في كل مرّة بشكل مغاير، تنعكس في صورة شخصية يتكرر حضورها، أو أخرى عابرة، كالفتاة الفلسطينية التي كانت تدرس في لندن، واكتشف معها جسده، أو طفلته وزوجته أم الطفلة، أو تشي غيفارا، أو "باولو" العشريني، و"الملاك الحارس"، أو "أمجد"، الذي يتماهى لك في تكوين السرد أنه توأمه، بل توأمه السيامي مجازاً، فهو الذي يبوح له، ومعه، بما يسكت عنه لحرج ما أو توتر.. هو جزء من منظومة حياتية يعيشها، ونعيشها جميعاً.
في كل مرّة يذهب أو تذهب أو نذهب فيها إلى "البار"، نشعر أن "هناك صوتاً" في الرأس، وجرحاً "لا يتوقف عن النزيف"، أو "هكذا نعتقد على كل حال"، فأنت، دون إصباغ التاء بفتحة التذكير أو كسرة التأنيث، على عكس ما فعل رخا، لا تعرف أكثر من "أنكّ ذاهب إلى البار"، يتحدث عن ذاته بلغة المخاطب، في تعبير واضح وليس فجاً عن حالة الاغتراب التي يعيشها، كما نحن، وعن حالة من غياب الوعي، وغياب الذاكرة، وغياب الهدف ربّما.
"هناك شعور بأنك في حلم، ومع أننا لا نستغرب الأشياء الغريبة في أحلامنا، إلا أنك تستغرب ما يحصل، على الأقل تسأل نفسك عنه، وتقول لنفسك إنك لست نائماً، ولا تحلم، لكن الحياة باتت فيلم خيال علمي، تختلف فيه قواعد الطبيعة نفسها، أما أنتَ، فكأنكَ في وعي مؤلف هذا الفيلم، أُسند إليك دور البطولة دون أن يخبرك أحد، حتى أصبحتْ مشاهد الفيلم هي الواقع الذي تعيشه فعلاً".
"إنك ذاهب إلى البار بالكاد تعرف من أنت، لكنك تعرف أن عندك حكاية، وتتخيل حكايتك فيلماً، أو هكذا يصفها لك الصوت الذي معك في البار.. ليس في السيناريو كله إلا لقطتان، الأولى لرجل في سِنّك يقف عارياً أمام المرايا، يبلع ريقه ويَسهُم. كيف يمكن تصوير الحالة المزاجية لرجل يفتقد شيئاً لا يعرف ما هو (...) اللقطة الثانية لشاب بكامل ثيابه على البحر، نراه يقترب من المياه ويدير رأسه بالتصوير البطيء".
إنه التشويش، القادم من الماضي، كما كان بشاشة التلفاز في الثمانينيات، بعد انقضاء موعد البث، ومن حاضر أكثر ضبابية وغباشاً، فكلنا منزعجون، وبدرجات متفاوتة، من عجزنا عن الوصول إلى إجابات لتلك الأسئلة المستحيلة كلها، لكننا متصالحون، بشكل أو بآخر، مع فكرة ألا نعرف أكثر، ربما لكوننا فقدنا معظم ذاكرتنا، وباتت معلوماتنا عن حيواتنا محض ومضات متقطعة أو متسلسلة، تومض وتنطفئ، ومع أننا لا نشك أنها حصلت معنا، إلا أننا لسنا متأكدين من درجة اتساقها مع الواقع، نسير ولا نعرف إلى أي موسيقى سننصت، ولا في أي موضوع سنتكلم، لكننا سكارى حتى قبل أن تبتل شفاهنا، فلا يكون أمامنا، في كثير من الأحيان، إلا أن نغمض أعيننا لنسمع على طريقة عازف الأكورديون الأعمى، بالعشوائية نفسها، لعلنا نستعيد مشاهد، وإن لم نختر استحضارها، لنعيشها مرّة ثانية، رغم أننا نعرف يقيناً، في خضم اللايقين الذي نعيشه، أن ما يحدث أو يجري الحديث عنه غير موجود أصلاً، ومع ذلك نراه ونسمعه، وكأننا نغرس أصابعنا في الخيال، فنجده صُلباً وحاضراً، وهو ما يبدو أو يتبدى لك أنه أكثر ألماً من ثلج يسكب على الوجوه فتستفيق مذعورة، بينما ساكبها يضحك دون معنى!
"إنكَ ذاهب إلى البار" رواية ما بعد حداثية، قائمة على "اللهو"، يتكئ فيها رخا على السرد الماورائي، والانعكاسية الذاتية، التي هي هنا جمعية أيضاً، وعلى الإيحاء حد الوهم، الذي هو انعكاس لما نعيشه أو نعايشه، فأي حدث في الرواية ربما لا يكون هو الحدث، وربما لم يحدث بالأساس، ليتركنا نبحث عن ذواتنا كما عن "نايف" ورفاقه الذين هم هو، وعن السرابيّات في حيواتنا، وحتى في مصائرنا، مؤكداً على مقولة الروائي الفرنسي مارسيل بروست: إن "رحلة الاستكشاف الحقيقيّة لا تستلزم الذهاب لأراضٍ جديدة، بل تستلزم الرؤية بعيونٍ جديدة".