
كتبت بديعة زيدان:
يلاحق الروائي العراقي أزهر جرجيس، في "وادي الفراشات"، أحدث رواياته، حكايات ابن بغداد "عزيز عوّاد"، الذي يبدو أن حظه العاثر يرافقه كظله، وإن كان في واقع الأمر دفع ثمن أفعاله أيضاً، حين لفظ النصيحة المفتاحية، التي قدمت له، بخصوص العائلة، بأن "احتفظ بهم كي لا تقف عاريا في الريح".
في زمن ما قبل الحرب على العراق في العام 2003، تدور أحداث الرواية، الصادرة عن منشورات مسكيلياني ودار الرافدين، وتُنافس على الجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر)، بوصولها إلى القائمة القصيرة، لكن واقع البلاد السياسي يبقى في ظلال الأحداث، فالحكايات المحورية لا بعد سياسياً مباشراً لها، وإن لم تغب فيما وراء السرد، رغم أن التركيز بالأساس على "عزيز" الإنسان.
ومع ذلك، رسمت الرواية المشهد العراقي إبّان الحصارات المتعددة، منذ تسعينيات القرن الماضي، حيث الفقر، والجوع، والبطالة، والفساد، وقمع الحريّات، والتعذيب، وسطوة العاهرات، وحيث أطفال الزنا، وسرقة الأعضاء، والتدهور المعرفي، وبروز التدين الشكلاني كرد فعل على كل ذلك.
"حملات التفتيش التي يشنّها بين الفينة والثانية رجال الأمن.. لقد تديّن الناس، وصار نادراً أن يدخل زبون للسؤال عن مجلة علمية أو رواية أو كتيّب خواطر حتى.. الكل صار باحثاً في الدين، يلوك الأحكام الشرعية قائماً قاعداً.. في الدواوين يدور حديث المرجعية، وفي المقاهي جدل حول الأعلم، وفي الكوستر خطبة الجمعة تصدح، علماً بأننا في يوم السبت.. لا ضير، ما دام هناك مسجّل وشريط وكاسيت، ومحلات للتسجيلات أبدلت الطرب بالخشوع.. لقد انحسرت من على الرفوف أشرطة السيدة والعندليب وياس خضر، في مقابل العجمي والسديس والوائلي، وبات الشارع خاشعاً رغم بثور الفقر التي تشوّه خدّيه.. وشيئاً فشيئاً نسي الناس ما حلّ بهم من جوع وضياع، وانشغلوا في شأن الآخرة".
و"عزيز"، ليس له من اسمه نصيب، فلا عزيز في العراق، فهو يظهر من جهة، ذاك الشخص المطحون الفقير الذي حاول عبثاً أن يعيش بكرامة، وأن يحقق أحلامه كما العراق بلاده، وفشل، فقدر عزيز كقدر العراق، من سيئ لأسوأ.
ثمة الكثير من المطبات أو الكوارث في حياته وحياته البلاد، فكلما سعى لشيء لم يحققه، ليس لسوء طالعه فحسب، ولكن بالأساس لقلة اجتهاده، وعزيمته الواهنة، وتشتته الذي حال دون أن يحقق له كل ما كان يصبو إليه، فهو الفاشل بحكم واقع البلاد في كل شيء تقريبا، من التعليم إلى العمل إلى الحب والزواج، والأصعب فشله في الاحتفاظ بالأحبة، بقصد أو دونه.
وهنا لا بد من الحديث عن أنه، ورغم ظلم بعض ذوي القربى له، وخاصة شقيقه الذي سطا على ميراثه وتخلى عنه، نراه يفرّط، بحكم الظروف الصعبة، بمن أحبوه، كزوجته "تمارا" التي قبلت به رغماً عن أهلها، وابنه، وخاله "جبران" الذي كان ينتشله من كل مصائبه.
يرافق اليُتم "عزيز" منذ كان في الثالثة عشرة من عمره، وفيما يستعمر شقيقه الأكبر المنزل، ويحرمه من ميراثه، وبوحي من مكتبة الخال، يقرر دراسة المسرح بعد التخلي عن حلم دراسة الطب، لكنه سرعان ما يكتشف أن "الشهادة الجامعية في بلد يضرب الجوع خاصرتيه، لهي أدنى قيمة من المسمار الذي يشدّها إلى الحائط"، فماذا لو كانت في بلد يتعاطى مع الفنون، ومن بينها المسرح، رفاهية لا ضرورة لها في زمن شح أساسيات الحياة.
وهنا يمكن الإشارة إلى أن الرواية تناولت بشكل أو بآخر، واقع المثقف العراقي، الذي عانى ولا يزال في زمن الحصار تلو الآخر، والحرب تلو الأخرى، والذي يختصره بواقع الإقبال على الكتاب، قراءة واقتناءً، مُعبراً عن ذلك بمقولته غير المواربة: "لقد عزف الناس عن دخول المكتبات وغدت القراءة ضرباً من الرفاهية، لا أحد يضحّي بقوت يومه من أجل كتاب، فإن قال قائل القراءة غذاء العقل، ردوا عليه: أغلق فمك، نحن جائعون".
يتنقّل "عزيز" من عمل إلى آخر، وما أن يخرج من حفرة حتى يقع في أخرى أعمق منها، فنراه يسجن مراراً، حتى يستقر في أرشيف دائرة حكومية، وهناك يجد متسعاً لإثبات ذاته، عبر الزواج من محبوبته، التي يخسرها أيضاً، كما أولاده الواحد تلو الآخر بقرار ربّاني أو إنساني، في استمرار لمسلسل تنكيل الحياة به، وإمعاناً في ظلمها له، أو ظلمه لنفسه والمحيطين به من المحبّين.
مع الشخصية التي تقتحم السرد، أي"النقاش"، تنحى الرواية باتجاهات أخرى، برفقة هذا السائق الذي بدا وكأنه يقرأ في مصحف ليتضح أنه "دفتر الأرواح"، الذي يرصد شيئاً عن المنسيين في حيواتهم ومماتهم، أو المستقرين تحت التراب في "وادي الفراشات"، الذي يصطحب "عزيز" إليه.
يغيّر المكان كل مفاهيم الشخصية المحورية في الرواية، ويشكل نقطة فاصلة، بحيث يجد "عزيز"، وما هو "بعزيز"، نفسه، محاطاً بما لا يمكن استيعابه، ففيه حكايات أضافت تساؤلات لكل ما واجهه، فالوادي يمتلئ بمنبوذين من "أولاد الحرام"، ماتوا ودفنوا من غير مراسم تشييع، وكان كلما دفن أحدهم طارت من قبره فراشة.. وحتى هنا، يتبدّى، وكأنه أضاع فراشته، فسقط إلى قعر الوادي، ولو مجازاً.
"انتهى من الحفر أخيراً، ليعمد بعدئذ إلى قفة الخوص، ويُخرج منها نعشاً بطول ذراع.. أرخى اللفافة عنه وأظهر وجه الميت.. كانت طفلة رضيعة يلمع تحت البرق وجهها، أنزلها برويّة في حفرتها وأخذ يحدثها بود (...) ثم أغلق عليها القبر، وبسط يديه لقراءة الفاتحة قبل أن يسبقني إلى السيارة.. أما أنا، فتسمّرت أحدق في قبر فارغ عند السدرة، غير عابئ بوابل المطر فوق رأسي، لمن هذا القبر إذاً؟! وما هذه المقبرة الغريبة؟! (...) كنتُ مبللاً بالمطر والأسئلة، ولم أستطع مع الشيخ الغريب صبراً، سألته عن المقبرة، فقال: هذا وادي الفراشات".
يبدو "عزيز" وكأنه مسخ الحروب تلو الأخرى، التي عصفت ببلاده، وتركت آثارها عليه كما غيره من العراقيّين، فالحروب لا تنهي حيوات البشر ممن استحالوا جثامين فحسب، بل تنهي حيوات الأحياء بـ"متلازمة يأس"، إن جاز التعبير، تجعلهم، يمحون من دواخلهم إمكانية العيش بسوية، بل تغتال الوجود أو محاولات استعادته لديهم، في بلاد عجيبة حيث تعيش "نهار عفيف، وليل ماجن"، ليبقى على قيد السؤال، الذي هو سؤال الكثير من العراقيين كما المظلومين في كل أنحاء العالم: "أنبئوني، ماذا عليّ أن أفعل لترضى عني حياتكم هذه؟! أنا لم أدّخر جهداً من أجل رضاها، فإلى متى يدوم سخطها؟!".
قد تبدو الرواية موغلة بملاحقة الأحداث التي يعيشها ويعايشها "عزيز"، لكنها رواية تكشف بالأساس فنتازيا واقع بلاده، بل وتسعى إلى تعريته، عبر تيه شخوصها، وضياع أحلامهم، ما يجعل من "وادي الفراشات" تبدو وكأنها مرثية للوجع العراقي، معبراً عن ذلك باستعادته نصّ الشاعر الكبير محمود درويش: "فأين نسينا الحياة؟ سألت الفراشة وهي تحوم بالضوء، فاحترقت بالدموع!".