تاريخ النشر: 11 آذار 2025

دردشة مع إسكندر حبش: الترجمة طريقة أخرى للكتابة وفلسطين حياة نعيشها

 

حاوره زياد خداش:

 

مَن منا لم يقرأ ترجمات إسكندر حبش؟ من منا لم يتفاجأ حين علم أنه فلسطيني من اللد؟ الفلسطيني اللداوي الذي سكن مخيم مار إلياس بعد النكبة، ما زال يعيش في بيروت محاطاً بالكتب الجاهزة للترجمة والتي يفكر في ترجمتها.. العشرات من المجموعات القصصية والروايات والدواوين الشعرية ترجمها إسكندر بحساسية قارئ مثقف، وفنان متفرد، من لغات عالمية مختلفة، مضيفاً عبرها الكثير إلى المكتبة العربية، ومساهماً في موجات التحديث في الكتابة العربية الشابة.
لم يُقعد المرض إسكندر عن الترجمة، ما زال يترجم ويفكر ويبدع، أرسل لي رسالة مؤثرة عبر "واتس آب"، حين طلبت منه حواراً لـ"أيام الثقافة"، بحيث قال لي بالحرف الواحد: هل تصدق أن هذا أول حوار معي في جريدة فلسطينية؟.. ثم استفاض في حديث دافئ عن أقاربه الذين يعيشون في رام الله، وعن قرابته القريبة من حكيم الثورة جورج حبش.. هذه دردشة معه.

 

* ماذا كنت تفعل قبل أن تبدأ الإجابة عن السؤال؟
- حين وصلني السؤال، كنت أستمع إلى موسيقى البلوز التي أعشقها.. تلقيت من ابنتي هدية كانت عبارة عن عشرة أقراص مدمجة، تحاول أن تقدم لمحة عن تاريخ هذه الموسيقى، عبر استعادة أشهر المعزوفات لأشهر العازفين، لكني لم أبدأ بالإجابة فوراً بطبيعة الحال، تركت نفسي تطير في أحلام "النوتات"، وكأنني أعيد صوغها على طريقتي.
بالنسبة إليّ، إن لم تُعِد كتابة الموسيقى بطريقتك الخاصة، لا داعي للاستماع إليها.. عليك أن تذهب في التأويل عميقاً.
في أي حال، ها أنا بعد يومين، أكتب جوابي عن سؤالك.. إنه صباح بيروت الباكر.. كنتُ على الشرفة أنظر إلى الشارع وأحاول أن أتخيل شكلاً آخر للمدينة، لكني لم أنجح.. بيروت هي بيروت، لأنها هكذا.

 

* يقال إنك مريض. هل هذه خدعة مترجم يحاول أن يعيش في لغة أخرى أم مراوغة كاتب تحقيقات صحافية مدهشة؟
- جميل سؤالك، لكنها ليست خدعة مترجم.. منذ فترة تمّ تشخيصي باعتباري مصاباً بمرض السرطان، وها أنا أتابع العلاج، لكني أعتقد أن الترجمة ليست خداعاً، بل أظنها تفترض منفييْن.. منفاك أولاً، حين تحاول الكتابة بلغة الآخرين، وثانياً إحالة الكاتب الذي تترجمه إلى منفي يعيش في لغة أخرى.. القراءة أيضاً تفترض منفاها الخاص، إذ تأخذنا الكلمات بعيداً عن واقعنا لنعيش واقعاً آخر، لكن فضيلة هذا المنفى أنه يجبرنا على البحث عن معنى لواقعنا.

 

* ما هو الكتاب الذي ترجمته وتمنيت لو أنك مؤلفه؟
- أستطيع أن أقول باطمئنان أنني لم أترجم سوى الكتب التي أحببتها.. عادة، أنا من أختار الكتب وأعرضها على الناشر.. لا يمكنني ترجمة كتاب لا أحبه، لأن الترجمة بالنسبة إليّ ليست عملاً أمتهنه، بل هي طريقة أخرى للكتابة.. ربما تكون كتابة بأقلام الآخرين، ولكنها كتابة. في أي حال، يفترض سؤالك تسمية ولن أهرب منها.. هناك "أن تكون شاعراً" لياروسلاف سيفيرت، و"حرير" لأليسندرو باريكو، و"إله سبينوزا" لفيكتور بروشار، والعديد غيرها، ولن أنسى أعمال بيسوا بالطبع.. لغاية اليوم، ترجمت أكثر من مئة كتاب في الشعر والرواية والفلسفة.

 

* الكثيرون لا يعرفون أنك فلسطيني، وأنت لا تبذل جهداً لشرح ذلك. هل هذا صحيح، وماذا عن ماهية فلسطين في داخلك؟
- فلسطين ليست بحاجة إلى شرح، هي حياة نعيشها بكلّ تفاصيلها.. عائلة والدي من اللد، وعاشت لفترة طويلة في يافا.. جاءت إلى لبنان بعد النكبة، وعاشت أيضاً في الفترة الأولى في "مخيم مار الياس"، قبل أن تستطيع الانتقال إلى مكان آخر.. نعم أنا قريب "الحكيم" ومن العائلة نفسها، ربما لذلك لم "أشرح" نفسي كما تقول.
أعتقد ببساطة، أنني لم أتكئ على "القضية" لأجعلها "رافعة" للنص والحياة، لكن ليس معنى هذا أن فلسطين غير حاضرة في العديد من قصائدي.. مثلا كتاب "تلك المدن" وهو قصيدة طويلة، تحاول أن تستعيد الحلم الفلسطيني عبر سيرة والدي.. ما أريد قوله إنني لم أكتب نصاً أيديولوجياً، بل كنت أحاول تقديم مقولات أخرى.

 

* أنت شاعر ومترجم وصحافي.. هذا التوزع بين هذه المساحات هل أغنى عالمك أم سلبه منك؟
- يمكنك أن تضيف أنني مُدّرس أيضاً لمادة الفلسفة، وبما أنني ترجمت العديد من أعمال بيسوا، الشاعر البرتغالي، فسأحاول الانطلاق منه في جوابي.. كما هو معروف كتب بيسوا بعدة أسماء، لكنها لم تكن مجرد أسماء مستعارة، لأن الاسم المستعار هو تغيير الاسم فقط، أي أن كل النصوص تأتي من شخص واحد، من كينونة واحدة، وهي متشابهة، لكن الاسم يتغير.. لقد اخترع بيسوا بدلاء، والبديل هنا، لا يحمل فقط اسماً مختلفاً بل يحمل أيضاً كينونة مختلفة عن الأخرى، وهوية مغايرة، لذلك تجد أن نصوص برناردو سواريش لا تمت بصلة إلى نصوص ألبرتو كايرو، وريكاردو ريش، وغيرها من الأسماء الـ 72 التي كتب بها هذا البرتغالي المدهش، ليصنع كوكبة متكاملة، بل لنقل حركة أدبية لوحده.
لم أستطع بالطبع أن أسير على هذه الخطى، لذا بدلت كينونتي، جعلتها متعددة: الكاتب والشاعر والرسام والمُدرس، لكنني تركت الاسم عينه.. كلّ هذه الهويات أغنتني بتجاربها.. فتحت لي آفاقا مختلفة.. أنا كل هؤلاء ولكن اسمي لم يتغير، بقيت إسكندر حبش.

 

* أين تجلس الآن.. بأي مقهى ثقافي ومن هي شلتك التي تشتم معها العالم؟
- لم أعد أجلس في المقاهي منذ سنين عديدة... أغلب وقتي في غرفة مكتبتي أكتب وأترجم وأقرأ.. لم أعد أشعر بأي رغبة في شتم أي شخص أو أي شيء، وبخاصة الآن.. ربما ما تبقى لي من وقت قصير جداً.. كل همّي أن أنهي بعض الكتابات قبل الرحيل.
أجمل شيء في بعض الصداقات أنها تنتهي ولا تستمر إلى الأبد.. أشخاص قلائل هم من يستطيعون الاتصال بي كل يوم، والمجيء عندي ساعة يشاؤون.. حتى هؤلاء، عندما يطيلون الجلوس، تخرج شخصيات الكتب التي تلف جدران المنزل لتطلب منهم الرحيل.

 

* واقع الترجمة في العالم العربي هل يمكن أن يكون سبباً للكآبة؟
- ربما، لكن مع ذلك ثمة جهد بمواكبة ما يصدر في الخارج.. تنقصنا فعلاً هذه المنهجية في العمل.. على سبيل المثال، كنت منذ فترة أعد بحثاً عن الكاتب الفرنسي إميل زولا، إذ ترجمت له مؤخراً عدة كتب.. بحثت عمّا صدر بالعربية.. المفاجأة أن عدداً قليلاً من كتبه تم نقلها، بينما أعماله الكاملة تقع في عشرات المجلدات.. هذه عينة على أننا لم نعمل فعلاً على إبداع مكتبة حقيقية، بل نترجم لكاتب بعض الأعمال وننساه.
المخيف اليوم، أننا نبحث عن كاتب يمكن أن تُباع أعماله لترجمتها، بمعنى أننا تناسينا الهم الثقافي الفعلي الذي يمكن للترجمة أن تقدمه، ومع ذلك، هناك من يعمل فعلاً، ولا يمكن شطب هذا الجهد الذي يقومون به.

 

* حدثني قليلاً عن بيروت.. ماذا فعلت بك؟
- إحدى الأفكار التي ذهبت بيروت ضحيتها، وبالتالي ضحية نفسها، أنها مدينة "الجنون"، ربما لأنها كانت، في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، تختلف كثيراً عن بعض العواصم العربية، ما أدّى إلى دخولها في هذا المجاز الذي بقي يلاحقها، دون أن تعرف كيف تخرج منه.. أعتقد أنه ينبغي علينا أن نحدد هذا الجنون، فإذا كان المقصود به هذا الحب للحياة وهذا الميل الثقافي العالي الذي وسمها، في تلك الفترة، فلا أظنّ أن الصفة صالحة، بمعنى أنه من بديهيات الحواضر الحقيقية أن تسلك هذا الاتجاه.
ومع ذلك، كانت أيضاً مدينة قاسية القلب في جانب منها.. من يعرف بيروت قبل الحرب الأهلية يدرك حقاً أحزمة البؤس التي كانت تلفها، ويدرك جيداً هذه الهوّة الكبيرة التي تفصل بين مختلف الطبقات الاجتماعية، لكن كان هناك نوع من صيغة جعلتها تبدو "كمنارة" وسط "ظلام" يلف مدننا، وبالطبع ليست الوحيدة في ذلك، لكنها عرفت أكثر من غيرها كيف تُلمّع صورتها.
أظن أن الجنون الحقيقي، كان فترة الحرب، وإلا كيف نسمي ما حدث من قتل وخراب وتدمير وخطف وتصفيات جسدية وغير ذلك من أعمال.. كانت تبدو على النقيض من كل الأطروحات والمجازات والاستعارات التي رسمتها هذه المدينة عن نفسها.
من هنا، إن كانت لا تزال مجنونة، فهي في هذا الجانب الذي لم تعرف بعد كيفية التخلص منه، أي أن شبح الحرب الذي أحسّه لا يزال يحلق فوق أجسادنا.
بيروت كعاصمة ثقافية بامتياز، لم تعد موجودة مثلما كانت عليه من قبل، ثمة موجبات كثيرة تمنعها من أن تبقى، من هنا فإن "لمعانها" المستمر، لمن يطلّ عليها من الخارج، مردّه أن الكثير من العواصم العربية دخلت في نفقها المظلم، حتى دون حروب أهلية.
في العمق، أعتقد أن السؤال الحقيقي الذي لا بد أن يطرح نفسه اليوم، هو: هل من عواصم للثقافة في مجتمعنا العربي؟ ومع ذلك، نحاول أن نبقى ونحاول أن نقنع أنفسنا بأن الثقافة شأن حياتي وجوهري علينا أن ندافع عنه، لأنه، برأيي، حصننا الأخير، وإلا ما فائدة كل ما نقوم به.