
كتبت بديعة زيدان:
في الوقت الذي تدور فيه رواية "دانشمند" للروائي الموريتاني أحمد فال الدين، حول حياة "حجة الإسلام"، الإمام أبو حامد الغزالي الشخصية، وتحولاته الفكرية والعملية، وتجاربه السياسية والروحية، واشتباكه مع قضايا عصره، نراه وفي أكثر من 600 صفحة، يُعرّفنا على محيطه الضيّق، ويجعلنا نتعمق في تلك المناظرات العميقة والجريئة بين الشيوخ، وكيفية دفاع كل منهم عن حججه، والأسئلة الوجودية التي رافقته، والتحديات الروحانية والفكرية التي واجهته وواجهها، ومن ثم تصوفه، قبل أن نغوص رفقته في أتون الصراعات العقائدية والطائفية، ومن ثم السياسية بين المسلمين أنفسهم، وبينهم وبين الصليبيين.
وفي الرواية التي تحمل لفظاً فارسيّاً يعني "العالِم الفذ" عربياً، والصادرة عن دار "مسكيلياني" للنشر، وتنافس على الجائزة العالمية للرواية العربية 2025، بوصولها إلى القائمة القصيرة، نتعرف أكثر على عوالم الغزالي، وتلك الحقبة التاريخية، لمن يُكنّى بأبي حامد لولد له مات صغيراً، ويُعرَف بـ"الغَزّالي"، وفق غالبية الباحثين والمؤرخين، نسبة إلى بلدة غزالة من قرى طوس، هو المولود فيها العام 450 للهجرة، لأسرة فقيرة الحال، حيث كان والده يعمل في غزل الصوف، وليس له أبناء غيرَ أبي حامد، وشقيقه أحمد الذي كان يصغره سناً.
كان لافتاً لغير المطلعين على تلك الحقبة، الغوص أكثر في طبيعة الصّراعات السياسيّة، آنذاك، حد تفكك الخلافة، وتعدّد الولايات وحاكميها، وسيطرة ملوك الطوائف، علاوة على تدخّل النساء في السياسة، عبر شخصية "تركان خاتون"، زوجة "ملكشاه"، وتأثيرها في الحكم، في حين يصوّر لنا فال الدين، الدسائس السياسية، والمؤامرات، والفتن، والتشبث بكراسي الحكم، وسط صراع الإخوة عليها، طمعاً في السطوة والمال والمزيد من القوّة، لتكون "دانشمند"، ليست فقط رواية سيرة غيرية عن الإمام الغزالي، بل مرجعاً سردياً تتداخل فيه حكايات من وحول حضارات مختلفة: فرس، وعرب، وأعراب، وعباسيين، وفاطميين، وسلاجقة، وفرنجة، وغيرهم.
وابتدأ الغزالي طلبه للعلم في صباه، فأخذ الفقه في طوس، ثم رحل إلى جرجان وطلب العلم على يد الشيخ الإسماعيلي، ومن ثم إلى نيسابور، وبعدها إلى "عسكر نيسابور"، قاصداً الوزير "نظام الملك"، وزير الدولة السلجوقية، وكان له مجلس يجمع العلماء، فناظرهم في مجلسه وغلبهم، وظهر كلامه عليهم، قبل أن يصل إلى بغداد في أيام الخليفة المقتدي بأمر الله العباسي، حيث درّس بالمدرسة النظامية ونال إعجاب الناس لحسن كلامه وفصاحة لسانه وكمال أخلاقه، ولُقّب، وقتذاك، بـ"الإمام"، في حين لقّبه نظام الملك بـ"زين الدين" و"شرف الأئمة"، هو الذي تصدّى للفكر الباطني لدى الإسماعيلية، وكان منتشراً في وقته، حتى بات الباطنيون ذوي قوّة سياسية نجحت في اغتيال نظام الملك عام 485 هجرية، وتُوفي بعده الخليفة المقتدي بأمر الله، فلما جاء الخليفة المستظهر بالله، طلب من "حجة الإسلام" التصدي لهم في أفكارهم، فكان ذلك في كتب عدة، قبل الارتحال إلى التصوف، ومن بغداد إلى دمشق فالقدس، التي وصلها في العام 489 هجرية.
وتخصص الرواية فصلاً محورياً عن "رحلة الهروب إلى الله"، كما سماها، أي وصول "الهارب" إلى القدس، وإقامته فيها مُخفياً هويته، ومُعرفاً نفسه بمحمد الخرساني.
وكان ذلك بمثابة التحول الأخير في حياة الغزالي، الذي أخرجه من ترف القصور السرابي إلى تقشف "الخانقاه" الحقيقي، باحثاً عن "المعنى" الذي وجده في التسليم لله والسعي لتطهير النفس من رعوناتها البشرية، مُتبعاً العالمة الشيرازية، كما رؤاه ورؤاها في المنامات التي كانت تناديها فيه بـ”أن تعال إلينا”، إي إلى القدس.
"تسلل الضحى إلى أحشاء المدينة هادئ النفس طيب البال، لاحظ كثرة العباد في القدس مقارنة ببغداد، كانت أصوات السقائين تختلط بنداءات الباعة وصرخات المجاذيب، فالشارع المؤدي إلى المسجد الأقصى من الشرق، الموصل إلى باب الرحمة غاصٌ بالناس.. نساء ممسكات بأيدي أطفالهن ينظرن إلى البضائع المتناثرة على حافة الشارع، وباعة يتصّارخون، ورجال حسبة يتحققون من الأسعار، ومجاذيب وسط الطريق يذكرون وينشدون.. انشغل ذهنة مفكراً في سبب كثرة المنعزلين والعبّاد في الأقصى، ربما يكون ذلك لمجاورتهم النصارى، فالرهبانية والانعزال من أصول دينهم.. كان قلبه يضرب قفص صدره سعادة باقترابه من المسجد الأقصى، حيث الصلاة الواحدة فيه تساوي خمسمائة صلاة، وتخيّل نفسه مقيماً فيه يصلي كل يوم ما شاء الله له أن يصلي، مقبلاً على شأنه، لا ينطق إلا خيراً أو ذكراً، ولا يماري أحداً أو يجادل آخر".
في القدس استوقفته مكتبة حسنة الترتيب في جانب ضيق من شارع مسقوف، فأخذ يتأمل مدخلها، ثم دلف إليها، وصُدم عندما رأى آخر كتبه تأليفاً في بغداد "ميزان العمل"، فأخذه وبدأ يقلبه، قبل أن يصادف "جُند القدس، وبأيديهم السيوف والقيود"، ليقتادوه إلى السجن، بعد أن اتهموه بسرقة محل خضار، هو الذي كان يرتدي ملابس المتصوفة، قبل أن يعرّف نفسه مرّة أخرى، أمام القاضي هذه المرة، بمحمد الخراساني، حالفاً اليمين على المصحف ببراءته، فيخرج من زنزانته.
وفي القدس، التي أسهب فال الدين متلبساً الغزالي في وصفها ومعالمها، وانعكاساتها الروحانية عليه، يتحدث عن ذلك اللقاء بمن قادته إلى المدينة المقدسة في مناماته أو مناماتها، أي عائشة الشيرازية، والتي تبيّن عند البحث أن ابن عربي قال في "سراج المريدين" إنه "كان في بيت المقدس نسوة يُفتخر بهن على الأزمنة، يلتففن على العالمة الشيرازية، فقيهة واعظة متعبدة متبتلة، فلما دخل الروم بيت المقدس يوم الجمعة لاثنتي عشرة ليلة بقيت لشعبان من سنة 492 هجرية، ولجأت بهن أجمعين إلى المسجد الأقصى، وجلسن في قبة السلسلة".
كان حواراً عميقاً، دينياً وروحانياً مع الشيرازية، مذكرة إياه بتزّود رسول الله من الغار، وهو ما دفعه بعد ساعة من لقائهما إلى التوجه إلى الخانقاه للتفكير.. والخانقاه كلمة معرّبة عن الفارسية، وتعني المكان الذي يتطلع فيه المتصوف للعبادة، لذلك فبناؤها يكون ذا تصميم خاص، لتجمع بين المسجد والمدرسة، ومن أشهرها، الخانقاه الصلاحية في القدس، وأسسها صلاح الدين الأيوبي، وخانقاه السلطان بيبرس.
ويعاود اللقاء بالشيرازية التي تسأله عن تركه لبغداد، ليجيبها: "هربتُ لأني علمتُ شدّة تعلق قلبي بالدنيا، والقلب متعلق فطرة بالمباهج، مُنجذب إليها انجذاب الحديد إلى المغناطيس، لكنه إذا بَعُد عن مواقع الفتن وشراك الغواية، أمِنَ وسكن وفرح، وإنما الإسلام في البعد"، لتطلب منه أن يكتب رسالة العقائد لتدرسها لطالبتها، وهو ما كان.
وفي القدس أيضاً، التقى بالشيخ الرميلي، الذي صدمه حيث ناداه منذ أن شاهده بأن "اسمع يا أبا حامد"، وقد يكون، وهو على ما يبدو شخصية متخيلة، فالرواية التي تبدو تاريخية، لا تخلو من مخيال لطالما شكَّل مثار جدل حول ما إذا كان عملاً مضافاً إلى النص السردي، أو مُشوّهاً لحقائق التاريخ، الذي لا حقائق مطلقة فيه، أو مُشتتاً للقراء، فالروائي عمد هنا إلى ابتكار شخصيات أدارها باقتدار في سرديته التي تميزت بلغة جزلة، لم تخل من مصطلحات فارسية هي ابنة بيئتها وتكوين صاحب "دانشمند"، وهو اللقب الذي رافق الغزالي في بغداد، وإن تطلبت من القارئ البحث في ظل قلة الحواشي، كما هو الحال مع الشخوص، للتمييز بين المثبت تاريخياً حضورهم أو المصنوع سردياً منهم، وكذلك الأمر مع الأحاديث ومدى "مصداقيتها" التاريخية.
الحديث عن الرواية الخطية، حيث لا تصاعد أو هبوط في الأحداث، وإن يبرز جلياً فيها حجم الجهد المبذول، يطول، لكن يبقى الإشارة إلى أن فال الدين، لربّما، أراد منّا كقراء، أن نتأمل سيرة "دانشمند"، في البحث عن الأسئلة الأزلية لدينا في العقد الثاني للألفية الثالثة، وعن جدوى الوجود، وعبثية حيواتنا، ونحن نقلب صفحات تلك الرواية الروحانية الفلسفية الفكرية التاريخية، بينما تتقلب بنا الأيام وتُقلّبنا مع تواليها.