
حاوره زياد خداش:
كاتب من غزّة، صدر له: "مرافئ الشفق"، و"هديل المدينة"، و"ثورة الفلاسفة".. عاش محمد عكشية الإبادة، رأى ما رأى وعانى ما عانى، لكن قدرته على مساءلة الواقع وانتزاع أسئلته الصعبة من فم الحوت، ما زالت قوية.. هو بعافية، وهذا مُطمئِن.. أن تعيش في خيمة بعد قصة بيت رائع، وتبقى على قيد السؤال والكتابة، هذا يدعو لرفع القبعة.. وهذا من بين ما شجعني على إجراء هذه الدردشة معه:
* ماذا تفعل الآن يا محمد؟
- أنزف، مثل ثلاثين شهيداً في خان يونس سقطوا خلال دقائق قبل ساعة! أرتجف، صدقاً أنا أرتجف.. صارت هذه عادة جسدية تلازمني منذ عدة أشهر.. يسقط شهيد أو مبنى أو شجرة فأرتجف، حتى قبل أن أسمع الخبر!
ولماذا أكتب وأنا في هذه الحالة يا زياد؟.. لأنني لست واثقاً من أنني سأجد وقتاً لأكون بخير أكثر من ذلك! ربما يسوء الأمر أكثر.. ربما لا أكون حيّاً بعد دقيقة.
* باحث عن ماذا وتلميذ لمن يا محمد؟
- باحث عن إجاباتٍ لأسئلةٍ وجوديةٍ كبيرة، كانت صورتي في خيالي دوماً هي صورة الباحث الأكاديمي المختص في الفلسفة، ومن أجل الفلسفة درست الهندسة، وقرأت الاجتماع، وعلم النفس والتاريخ.. وأظنني سأجلس في معتزَلٍ ذات يومٍ كما جلس نيتشه في الجبال وخرج بـ"هكذا تكلم زرادشت".. سأجلس وأكتب إذا نجوت من هذه الحرب.. وإذا لم أنجُ كذلك.. سأجلس في معتزلٍ، وأفكر في أسئلة الوجود وأكتب، بل ربما يكون الأمر أفضل في الأبدية!.. سيكون كثيرٌ من الأسئلة قد أجيبت من تلقاء نفسها.
* تكتب الآن نصوصاً وكأنها يوميات الألم الغزي.. أحب مفارقاتك.. هل الدافع هو التوثيق أم الإبداع أم دفع لملل أم إثبات على أنك حيّ؟
- لا أعرف.. لو كنت أعرف كنت قلت لك.
لم أفكر يوماً في الدافع ولا أرغب في تبرير الأمر أو تحليله.. فقط أتألم فأكتب، وسواء استُخدم الأمر بعد ذلك للتوثيق أو لدفع الملل أو لإثبات الحياة أو لأسطرة غزة كما يدّعون، أو حتى للرمي في سلة المهملات، فهذا لا يعنيني. يعنيني فقط أن أكتب.
حينما أكتب أشعر بأنني قدمت شيئاً لأنقذ شعوري من الضياع.. مؤلمٌ أن يضيع شعورك.. يبقى مثل روحٍ معذبة معلقة بين الأرض والسماء تنتظر الخلاص.. ربّما من أجل ذلك أكتب، كي أنقذ شعوري.
* سمعت كثيراً أن غزة مُصدرّة شهيرة للورد.. ماذا حل في الورد يا صديقي؟
- أي ورد بالضبط تقصد؟ على كل حالٍ، نحن مضطرون لأن ننتظر نهاية هذا الجحيم حتى نحصي ما تبقى لدينا من ورد، أو مَن تبقى لدينا من ورد.
* احكِ لنا عن الموت في غزة وعن أحبابك وأصدقائك الذين التهمهم في لحظة جحيمية؟
- هل تعلم؟؟ أرى أن درويش لم يكن موفقاً حينما قال "الموت لا يعني لنا شيئاً، نكون فلا يكون، يكون فلا نكون".. اليوم يكون ونكون في وقت واحد وفي مكان واحد، يعيش معنا مثل ظلنا.
اكتشفت شيئاً.. أن الموت شأنه كشأن الطغاة جميعاً، لا يسمح لنا بأن نتكلم عنه، هو فقط مَن/ما يتحدث عنا.. وحديثه دماء وأشلاء وصمت مطبق ورجفة في القلب لا تنتهي.
اليوم كنت في عزاء صديق لي، مهندس، مثقف، جميل، حساس، عبقري.. لم يمت بصاروخ أو "كواد كابتر"، بل مات بسكتة قلبية بعد أن حاولنا جميعاً أن نخرجه من اكتئاب حاد بدأ عنده منذ "كارثة أكتوبر". حينما رأيت أبناءه في بيت العزاء قلت حق له أن يموت بسكتة قلبية.. فمن يملك هذا البستان من الورد لا بد أن يموت خوفاً وقهراً ووساوس!
نحن في غزة، كأغلب آباء العالم، لا نعيش لأنفسنا، نعيش لأولادنا.. وحينما نظن أن أولادنا في خطر ولا نملك لهم طوق نجاة فإننا نموت بسكتة قلبية جماعية.. هذه قاعدة "غزاوية"!.. وكل أولئك الذين ماتوا بصواريخ كانوا في طريقهم إلى الموت بسكتة قلبية.. صدقني!.. لكن الله كان أرحم بهم من قلوبهم فأراحهم مبكراً.
* شعراء وفنانون وروائيون استشهدوا في المذبحة.. أين ستذهب نصوصهم ولوحاتهم التي لم يكتبوها بعد؟
- المتفائلون يا صديقي، خاصة في زمن المجازر، هم حفنة من الحمقى.. آسف.
يلومني كثيرون لأن منشوراتي سوداوية، لست "شوبنهاوريّاً".. لكنني مجرد شخص صادق مع نفسي ومع وطني.. مع الأسف ذهبت تلك النصوص واللوحات مع أصحابها.. وتلك خسارة وطنية عظمى.
الأطفال الذين كنت أتابع مواهبهم في المدارس لم يعودوا يردون على رسائلي على "الواتس"!! أحدهم كان عبقرياً في نسج القصص لدرجة أنني أنا ومعلمته كنا نغار منه!.. كان اسمه محمد مثلي.. كان في الصف الخامس.. هل استشهد؟ هل بُترت قدماه؟ هل هاجر؟ لا أعرف.. ما أعرفه هو أنه لم يعد يرد على رسائل "الواتس".. ولا أظنه سيفعل.. وهذه خسارة وطنية كبرى!
هل تظن أن الموت وحده هو الذي قتل قلم محمد؟ لا.. سبق وقلت أن الموت صار يعيش معنا.. لا مشكلة في الموت.. هناك أشياء كثيرة تقتل الأقلام.. النزوح، وشرب الماء المالح، وحرارة الشمس في الخيمة، وصفعة من سائق عربة كارو مشرد، وصوت صاروخ، وموت صديق، وتطاير أشلاء بالصدفة في السوق!!.. هذه كلها تقتل الأقلام.. الحرب قذرة.. قذرة جداً، لذلك ذهبت النصوص واللوحات بلا رجعة.. وتلك خسارة وطنية كبرى.. بل وطنٌ كاملٌ ضاع!
* "المدن التي تتألم كثيراً لا تموت أبداً.. المدن التي تتألم كثيراً تصبح أقوى من الموت"، هذا كلامك يا محمد وهذا إيمانك.. ثمة من يقول إن الألم لا يطاق بحيث ننسى أمامه فلسطينيتنا.. كيف ترد عليهم؟
- ما يجري في غزة أمر أكبر من كل محاولات الأسطَرة.. غزة ليست أسطورة.. وما جرى أقوى من قدرة أي إنسان على أن يبقى بكامل قناعاته.
ما جرى فعلاً لا يطاق، بحيث أننا سنعيد التفكير في أشياء كثيرة بعد ذلك.. لكن فكرة أن "تنسى فلسطينيتك"، جملة غير صحيحة لغويّاً وتركيباً.. كلمة "تنسى" شأنٌ عقلي وكلمة "فلسطينيتك" تعبير عن كيان نفسي وعاطفي وروحي لا يتعرف على لفظة "تنسى".. فلسطينيتنا هي نحن.. نسيانها يعني فناءنا.. نبقى وفلسطين معاً، أو نمضي إلى الفناء معاً!
الأمر ليس مجرد شعارات.. هذه وقائع نفسية عايشتها بنفسي. لم يتألم أحد في التاريخ الفلسطيني ولا في الجغرافيا الفلسطينية أكثر من أهل غزة في هذه الحقبة.. لكن بصراحة.. ما أراه في نفسي وفي من هم حولي، أن حجم الألم يتناسب طرديّاً مع حجم حب الأرض!.. وهي ظاهرة غريبة، وأكبر من أي محاولة للتفسير!
* فزت بجائزة كتارا الرواية عن رواية "2222" في العام 2020، هل خطر في بالك هذا الفوز في فضاء المقتلة المستمرة ؟ وكيف شكل خطورة؟
- فزت بجائزة كتارا للرواية عن مخطوط رواية "2222" في العام 2020.. في فضاء المقتلة يخطر ببالنا كل شيء، لكننا لا نسمح للأفراح بالبقاء طويلاً في خيالاتنا.. ربما نخاف عليها من الموت فنتركها مخزّنة بعيداً في ذاكرة النسيان!.. ربما نخجل من الفرح أمام ما يجري.. ربما نستصغر كل أشياء الدنيا في حضرة القيامة المصغرة التي نعيش.. لا أعرف السبب تحديداً، لكنّي متأكد من فكرة أنني كنت وما زلت أحاول ألا أفكر كثيراً في هذا الفوز وسط هذا الجحيم.