
كتبت بديعة زيدان:
في روايته "ورثة قارون"، الصادرة عن دار العين للنشر في العاصمة المصرية القاهرة، يتتبع الروائي المصري، محمد إسماعيل، رحلة خمسة من الأصدقاء تجمعهم، بشكل أو بآخر، قرية "قارون" في الفيوم، بحيث يلتقون بعد سنوات فراق، في سعي للحصول على "الكنز المرصود" تحت المنزل الموروث من العمّتين، أو ربّما في أعماق البحيرة.
قد يصنف البعض الرواية تاريخية باعتبارها تعيدنا، في جزء منها، إلى الأسرتين الثانية عشرة والثالثة عشرة الفرعونيّتين، لتتبع تاريخ بحيرة "قارون" في مدينة "الفيوم" المصرية، وهما الأسرتان اللتان "حكمتا مصر قبل خروج اليهود من أرضها ببضع مئات من السنين"، وقد يرى البعض أنها اجتماعية نفسية، لكنها ما بين هذا التصنيف وذاك، يمكن وصفها برواية طبقات، لا تخلو من الإسقاط السياسي، كشحن المحتشدين في ميدان التحرير، فترة "ثورة يناير"، للهتاف ضد التنحي، ضمن حملتَي تجييش وتجييش مضاد، يظن فيهما كل طرف أنه الوطني الحقيقي، وقبلها تبعات "النكسة" واغتيال السادات، وفي أكثر من زمن، قتل وسجن أصحاب الرأي الحر المُخالف للحاكم.
عبر حكاية تبدو بسيطة عن أصدقاء قدامى يلتقون ويتعرفون بآخرين جدد ليخوضوا مجتمعين مغامرة البحث عن كنز، قبل أن تنتهي بغلبة الطبائع الشخصية لهم، ثمة ما وراءها الكثير مما هو أكثر عمقاً، بحيث تكون بحيرة "قارون"، كرمز من رموز لمصر، محور السرد، ومحور الصراع، تتغلب فيه المصلحة الشخصية، ولكن دون الخيانة العظمى، وكأنه تشخيص غير مباشر لواقع البلاد، في حاضرها، وماضيها، البعيد وغير البعيد، في سرد سريع، يحوي الكثير من الحوارات والعبارات القصيرة نسبياً، وهو سرد متعدد الأصوات لشخصيات تحركها المصلحة.
لكل من الشخصيات الخمس حكايتها، فتتشابك القصص غير المتشابهة، وإن كانت تُبرز الواقع بكل ما فيه من تناقضات، نابعة في الأساس من تناقض يسكن دواخلهم، ويشكل تكوينهم النفسي، بدءاً من "نجلاء"، التي كانت تعيش في دبي وتعمل في شركة قررت فجأة إنهاء تمثيلها في الشرق الأوسط، وهي تنحدر من "قارون" لأب كان يعمل في المملكة العربية السعودية، منذ عقود، لكنه رحل، مؤخراً، تاركاً وصية لها بمبلغ مالي كبير توزعه على أقاربه في القرية، لشعوره بالتقصير تجاههم.
أما "صبري" فهو نادل خمسيني يعمل في مطعم إيطالي، في حين أن "باسم" المرشد السياحي الذي ذهبت به "ثورة يناير" إلى "تقاعد إجباري" لم يتمكن من تجاوزه، أو تجاوز مغادرة زوجته الفرنسية "إيزابيل"، البلاد، ومعها ولداهما، بينما يدير "خالد" شركة والده، هو الذي كانت تجمعه وكل من "صبري" و"باسم" علاقة صداقة وزمالة في المدرسة، لكن هذه العلاقة تلاشت، قبل أن يلتقوا مجدداً في حفل نظمته المدرسة لخرّيجيها القدامى.. وفي المقهى بينما اللقاء الأول بينهم، بعد طول غياب، عرّفهم "خالد" على "نجلاء" القادمة من دبي، فيما خامستهم "شيري"، تقيم في "شرم الشيخ"، وتملك مركزاً للغطس.
والد "نجلاء" كان مستشاراً كبيراً بوزارة العدل السعودية، وكان قد تنازل عن بيت العائلة في "قارون" لشقيقتَيه، اللتين تعرضان عليها شراءه، مع إغراء بأن أسفله كنزاً، لقربه من قصر أثري، وبحيرة "قارون" الشهيرة، ومن هنا تبدأ الحكاية، حيث تتوالى الأحداث ليجند الخمسة خبراتهم للوصول إلى الكنز المزعوم، ويبدأ الحفر أسفل البيت، فالحفر "في قارون لا بد وأن يُخرج شيئاً، إلا إذا كان المكان محفوراً من قبل".
يقع "الورثة" في براثن حكايات تناقلتها الألسن عن الرصد، وما تحويه البحيرة، وكنوزها الكثيرة القابعة في عمقها، لكن أهل المكان، الذي يُقاسم الخمسة محورية السرد، قالوا: إن البحيرة "تحتها كنز قارون الذي يستحيل إيجاده، لأنه عميق جداً، ولأن لعنات كثيرة أصابت من حاولوا الكشف عنه"، وإن "قارون ذكر في العهد القديم باسم قورح، وكان من أثرياء بني إسرائيل الذين خرجوا لسيناء، ثم تمرد هو وداثان وأبيرام ضد موسى وهارون، فانشقت الأرض وابتلعتهم، هم وبيوتهم"، وإن "لدى المسلمين قصة شبيهة مؤداها أن الرب خسف به الأرض، ما يعني أن كنزه تحت البحيرة قولاً واحداً".
ولم تأتِ حكاية أو أسطورة "قورح"، اعتباطاً في الرواية، فهو حسب العهد القديم، وبعد أن تمرد على موسى مع داثان وأبيرام و250 من المتآمرين معه، عوقب المتآمرون بالتهام النار لهم، في حين شق الله الأرض تحت أقدام "قورح" من سبط لاوي وحليفيه "داثان" و"أبيرام" من سبط رؤوبين، وابتلعهم وعائلاتهم وكل من يرتبط بهم، كما كل ممتلكاتهم، في حين أن من اعترض من بني إسرائيل لما حدث مع قورح ورفاقه، وابتعاد موسى عن الجمع، وفق تعبيرهم، بوباء ضرب قرابة 15 ألفاً منهم، هو الذي ذكر في العهد الجديد تحت اسم "قايين"، وفي القرآن الكريم تحت اسم "قارون"، وعُرف بثرائه وعجرفته، وبادعائه أن الفضل في ثروته يعود إلى أنه ما حظي به كان من المفترض، وفق ادعائه، أن يكون حكراً على الله، الذي عاقبة بأن ابتلعته الأرض مع كل ثروته المادية العظيمة.
وهنا يتضح أن الأمر يتعلق بالميراث لا بالكنز، أي بما ورثناه، وبما يدعي، ربّما، أو قد يدّعي النقيض بأنه ميراثه، فكنز "قورح" أو "قايين" أو "قارون"، الذي هو جزء من كنوز مصر، قد ينسبه كل إلى أجداده اليهود أو المسيحيين أو المسلمين، وما يرافق ذلك من تأويلات سياسية بالأساس، تتشابك هنا مع الاجتماعي، والنفسي، ومن أطماع تبحث عن مبررات للصهيونية في دول الجوار، فهناك يهود مصريون في فلسطين المحتلة، بعضهم أصولهم من المنوفية، وهناك من يربط بين مسمّيات هنا وهناك، ما بين "أشكول" و"أشمون"، و"بئر السبع" و"بركة السبع"، و"أورشليم" و"أشليم"، وقد يكون كل ذلك من باب المصادفة، أو لنقل يهود المنوفية شيئاً من موروثهم إلى "أرض الميعاد" المفترضة، والمقامة على حساب حيوات الفلسطينيين وأراضيهم وبيوتهم وذاكراتهم المتوارثة.
ويبدو أن النهاية، التي قد لا تكون متوقعة، تعكس أنانية الإنسان من جهة، والملكية المصرية للكنز، بعيداً عن القصص الدينية والأساطير، ولكنها تحيلنا إلى نبأ انتشر في العام 2015، مفاده "زعم مواطن مصري من محافظة المنوفية عثوره على كنوز قارون، وهو أحد أغنى أغنياء بني إسرائيل في عهد النبي موسى، وطالب الحكومة باستخراجها من موقع الاكتشاف، بحيث انتشر مقطع فيديو لاكتشاف كنوز وآثار تنسب لقارون، وأنه أكد اكتشافها بأرض بمساحة عشرة أفدنة جميعها تمتلئ بالذهب والمجوهرات والآثار الفرعونية، التي تكفي لشراء دولة كاملة، عثر عليها من خلال شق في الأرض المذكورة، مطالباً الدولة المصرية بالعمل على استخراج الكنوز كاملة وبإعطائه 10% من قيمتها، بالإضافة إلى 16 مليون جنيه وقلادة النيل تكريماً له، كما أكد استعداده للعقاب في حال أن ثبت خطأ مزاعمه، وأنه سيتحمل عقوبة بغرامة 16 مليون جنيه وبالسجن مدى الحياة إن لم يتم العثور على الكنز"!