
كتبت بديعة زيدان:
"في مكان ما، تكبس إصبعٌ على زر، وترفع يدٌ رافعة، فينطلق هيكل ضخم من فوهة، ليتعالى في الجو تحت سقف السماء الزرقاء، والرمادية، والغائمة، وربما الماطرة، لكن أيّ هدف حدده ذلك الهيكل، ذلك الطائر بلا جناح، ليحط فيه؟.. هذا ما لا يعرفه أحد على وجه الدقة، بمن في ذلك صاحب تلك اليد التي رفعت الرافعة، أو تلك الإصبع التي ضغطت على الزر.. الكثير من الناس شهدوا نزوله، على نحو مفاجئ، غير أنهم لم يعودوا بيننا ليحكوا لنا كيف عرفوا الخبر".
بأسلوب سردي تجريبي، يعكس قدراته الكبيرة كسارد بارع، يتناول الروائي الإيراني محمود دولت آبادي، في روايته "طريق الذبح"، الحرب العراقية الإيرانية، أو حرب الثمانية أعوام، أو "القادسية"، منحازاً للإنسانية، وهو ربّما ما حال دون موافقة الرقابة الإيرانية على نشرها، إلا في العام 2017 هي المكتوبة ما بين العامين 1983 و1985.
الرواية الصادرة حديثاً بالعربية عن "منشورات الربيع" في القاهرة، بترجمة أنجزها د.أحمد موسى، يمكن وصفها بأنها رواية "مناهضة للحرب" عامة، وهذا ليس مستغرباً لمن يعرف أفكار صاحبها المعلنة إزاء ذلك، وهو ما عبّر عنه عبر إحدى شخصيات الرواية بالتساؤل والإجابة في آن: "من يحب الحرب؟ لا أحد حقاً"، بل يذهب بعيداً باعتبار حرب "الثمانية أعوام"، كانت صراعاً بين جنود إيران والعراق، والجنود هم أناس لهم حيواتهم ولهم من يحبونهم، وهم يشكلون هذا الشعب أو ذاك، بشكل ما.
واستغراق آبادي عدّة سنوات لإنجاز هذه المائة وخمسين صفحة أو يزيد قليلاً، بحساسية عالية ورهيفة، وفي ذات الوقت بطريقة مبتكرة لا تخلو من أبعاد فلسفية عميقة، يجعل منها، عملاً ملحمياً مكثفاً حول تلك الأعوام المثيرة للجدل في الحرب العراقية الإيرانية، وآثارها المدمرة على الجانبين، وخاصة البشر، الذي غاص في دواخل بعضهم، طارحاً تساؤلات لا إجابات عن الكثير منها، ومتطرقاً لمآلات مبتورة كما أعضاء الكثيرين منهم، أو لمن رافقوهم في الحرب التي فرضت عليهم، وخرجت دون نتائج تذكر على الأرض، ما يدفع للتساؤل، حتى يومنا هذا، حول جدواها.
تدور أحداث رواية "طريق الذبح"، كما هو اسمها بالعربية، حول عدد قليل من الجنود العالقين في مكان على أرض المعركة، لا يعيشون خطر كونهم في مرمى نيران العدو فحسب، خاصة إذا ما حاولوا أو أحدهم الهبوط عن التلة باتجاه خزان المياه، بل تعصف بهم الاحتمالات الكبيرة بقضائهم عطشاً، هم الذين يحاولون الوصول إلى مصدر مياه ليس قريباً، وهذه المأساة تتعمق، حين ينقل لنا أن العطش هو ما بات يجمع الجنود الإيرانيين والعراقيين المتحاربين، حدّ مقايضة "الأسرى مقابل الماء".
"تراودني فكرة، ما رأيك أن نقايضهم، أسيرهم بالماء؟.. ماذا؟.. الأسير مقابل الماء؟.. وما أدراك أنت بما يجري في تلك التلة؟ قد يكون في قبضتهم أيضاً أسرى منّا نحن".
وفي الرواية شخصيات عدّة، من بينهم كاتب روائي يرافق الجنود الإيرانيين لتسجيل يوميّات الحرب، وهذا الروائي، الذي لربّما يتقمصه آبادي، أو يتماهى معه، يشكل مرتكزاً محورياً في الرواية، تقنياً، وفي الحبكة السردية لها، والتي تحوي العديد من القصص على الهامش أو في صلب حكايات ملتبسة ما بين حقيقة ومخيال حول الحرب العراقية الإيرانية، برواة متعددين يسردون هذه الحكايات العادية وغير العادية في آن، ومن بينهم الكاتب الذي يعدّ رواية داخل الرواية، ما يزيد من خصوصيتها.
ومن خلال تقديم رؤيتين متضادتين للأنا والنقيض، وبإيقاع سريع لا متسرع، وبتكثيف محكم، وعبر توالي ولا توالي الأحداث، وربّما المغامرات، تزداد جمالية الرواية، النابع في شيء منه، ليس فقط من براعة آبادي، بل من تشكيل تفاصيل الحكايات وتركيبها، عبر روائييْن اثنين، أحدهما داخل الرواية، يشارك كاتبها صياغة أحداثها المحورية والفرعية.
الكاتب الذي يطُلب منه، بل يؤمر، أن يخرج بنص يتكئ على حكايات مزيفة ومحرفة عن الحرب، تتوافق مع معايير الحكومة الإيرانية وأهدافها، هو نفسه لديه شكوك عميقة حول أسس مفهوم الحرب.. "أنا كاتب أيها الرائد، لا يمكن للكتّاب أن يكونوا وقوداً للحرب.. إنها الحرب التي ما زلت لا أفهم معناها وهدفها!".
على خط المواجهة، تدور أحداث الرواية، أو على "تلة الصفر"، وهذه الاختيارات لا تبدو اعتباطية، فالمواجهة هنا تتحول من عسكرية، إلى مساءلة فكرية عميقة حول "الحرب" عموماً، وكأنها مواجهة مع الذات، ومع المجتمع، ومع السياسة العسكرتارية، أما "تلة الصفر"، فلعلها تفضي إلى "صفرية" المحصلة النهائية لمعادلة الحرب، وتعكسها الرواية في حوارات الضابط الرائد والجندي والكاتب الروائي.
"السيف، السيف، السيف والدم، والرؤوس المتطايرة، والصدور الممزقة، والعطش والحمام.. لماذا أفكر في الحمام منذ فترة؟.. الحمام الذي يحلق في أعالي السماء، ولا يجد حافة على قلعة ليجلس عليها.. أليست هي حمامة نوح نفسها التي لا تزال تطير بحثاً عن اليابسة؟!.. تحليق، تحليق حمامة، حمامة انقطع نفسها.. الفتح، الكفن، الكلمة، الكلمات، النسيان، الذهن، العادة، والذباب".
ونرى في الرواية نزوحاً ليس إلى التاريخ فحسب، حيث الحديث عن "السامانيين" والبرامكة والخراسانيين وغيرهم، بل توظيفا لرموز كالحمام والأسود وغيرهما، علاوة على الحفر عميقاً في الأساطير المختلفة المُستحضرة من أزمنة متعددة، وكأنه يحدثنا عن الحروب، ودورها في تطور أو لا تطور العالم، الذي يسير بمن يتبقون على قيد الحياة، غير آبه بمصائرهم، بحيث يمكن توصيفها بأنها رواية تتجاور بها روايات متعددة معاصرة وتاريخية، تتشابك حول محور الحرب، علاوة على استعادات تبدو متخيلة وإن اتكأت على أحداث ما جرت، أو يُقال أنها جرت، على اختلاف الأزمنة والأمكنة.
هناك الكثير من الروايات التي تناولت الحروب، لكن هذه الرواية قدمت قراءة مختلفة وفريدة، بحيث تعد صرخة ضد الذبح، عبر استعراض عميق للأفكار والمشاعر والمعتقدات الإنسانية، وطرح أسئلة فلسفية ووجودية في أذهان قرائها، حول مفهوم الإبادة والأخلاق، وعبر رمزيات متعددة، بحيث تبدو "طريق الذبح"، وكأنها حكاية الإنسان حين يقع فريسة للتناقضات، وأسيراً لعقل مشوش وروح تائهة، ما بين أن تَقتُل أو تُقتل، وما بين أن تنجو وتعطي مساحة ما للحياة، فـ"تلة الصفر"، تبدو كحدود فاصلة ما بين الرحمة والقسوة، والعقل والقلب، والعاطفة الإنسانية ودوافع البقاء، في رحلة بحث
عن "الحقيقة"، ولا "حقيقة"، فلا أبيض مطلقا ولا أسود مطلقا، ويبدو مستحيلاً التمييز بين الصواب والخطأ، المتغير مع تغيّر جهة التأويل، خاصة إذا ما كانت "البشرية باتت بلا زمام، وفي طور الإبادة، لا تبيد الأنواع الأخرى من الحياة فقط، بل تقضي على نفسها أيضاً".
في النهاية، نحن أمام سؤال كبير تطرحه الرواية: "أياً كان المنظور الذي ننظر فيه إلى الحرب، أليست الإنسانية هي التي ذبحت؟!".