تاريخ النشر: 11 شباط 2025

دردشة مع الكاتبة نهيل مهنا: عندما عبرت الدبابات شارع النصر في منتصف الليل

 

حاورها زياد خداش:

 

في روايتها الأخيرة الساخرة (ممنوع الدخول للرجال) الصادرة قبل الحرب الأخيرة المستمرة، صورت نهيل مهنا تأثير حصار غزة على مفاهيم نسوية كثيرة تتعلق بأزمات وحياة المرأة الغزية تحت الحصار، ربما نحتاج جميعا من نهيل هذه الأيام رواية ساخرة أخرى تتحدث عن تأثير جحيم غزة المستمر على مفاهيم الحياة المتعلقة بالإنسان هناك، لم يعد هناك رجل وامرأة وطفل وشيخ وشاب، صار الكل في مصهر النار ذاتها بلا حدود أو تصنيف.
تكتب نهيل الشعر المصفى بلغة اليأس البارد، لا يشل اليأس جمال صورتها ولا يجمد القتل بهاء وعمق جوهر نصوصها.
هذه دردشة مع ابنة غزة التي هربت من الموت مرارا، ونجت بأعجوبة، مثلما نجت لغتها من خطاب الصراخ.

* السرد والشعر والفن عموما في مواجهة المجزرة، هل هذه رومانسية أم واقع؟
- عندما نقضي الليالي الطويلة خلال شهور الحرب نقرأ الروايات التي كنا ندخرها سابقا لأن عجلة الأيام كانت سريعة قبل الحرب، وعندما أقرأ لطلابي في الخيم كل يوم قصة وأجدهم متسمرين ومبحلقي أعينهم من الدهشة والفرح، وعندما نجد جميع مكتبات غزة ما زالت تفتح أبوابها وأحيانا بسطاتها لاستقبال القراء النهمين فأعتقد هذا واقعا وواقعا جميلا وليس رومانسية.

* كتبت مرة عن شوقك لأكل التفاح، رغم أنك لا تحبينه، هل حقا لعبت الحرب بذائقتنا؟
- لا، لم تلعب الحرب، لعنها الله، في ذائقتنا، ما زلت أكره الفاصولياء البيضاء حتى لو اضطررت أن أبقى طوال اليوم بلا أكل، ولكن التفاح ذكرني وقتها بأيام الصيف المنعشة والشاليهات والسباحة وليالي الأنس والألفة والأرجيلة المسائية مع الأصدقاء في المنتجعات الفخمة التي كانت موجودة في غزة قبل الحرب، للتفاح ذكريات عميقة لدي ومتشعبة لها علاقة بأجوائه وليس بطعمه.

*صفي لنا ليل غزة الآن يا نهيل؟
- موحش وكئيب وعلى مدى بصرك لا ترى غرفة مضاءة، سواد حالك سواء في الشارع أو في البيوت، ولكني تصالحت مع ليلها، وكلي أمل أن يعود الصخب وليالي السمر والسهرات والدردشات وجلسات الهاند رمي والطرنيب وحفلات الشباب الليلية لمناسبة زفاف صديقهم أو جار لهم إلى ليل غزة، أنا أسكن حاليا في شارع النصر وسط غزة أي منطقة الشمال بعد أن تم تقسيم غزة إلى شمال وجنوب، ولقد كان من أكثر الأحياء والشوارع حيوية وصخبا حتى ساعات متأخرة من الليل، ولكنه الآن خالٍ إلا من ٥ عائلات فقط بعد أن كان يضم أكثر من ٥٠٠ عائلة، منهم من هاجر ومنهم من انتقل إلى الجنوب ومنهم من لا نعرف مكانه وانقطعت أخباره منذ بداية الحرب.

* لو اعتبرنا أن غزة رواية عجائبية، صفي لها عنوان ونهاية ملائمة؟
- دعني أتخيل التالي.... تحديدا في الشمال، أناس قليلون وبيوت كثيرة، وهذه البيوت بلا ساكنين ويحق لكل ساكن أن يختار له خمسة بيوت على الأقل، يقضي كل يوم في بيت مثلا، ويرتدي ملابس أهل البيت ويستخدم أدواتهم، ويختار أفضل إطلالة تحديدا لو كان قريبا من البحر، عندما تخرج من بيتك عنوة فكل الاحتمالات متاحة وأنت البطل ويحق لك ما لا يحق لغيرك لأنك اخترت البقاء ورفضت النزوح، فتدلل واطلب وتنعم بكل الخيارات التي حولك لأنها مكافأتك فأنت الآن تحرس ممتلكات الغير ولا ضير أن تستفيد منها فأنت أولى من اللصوص والجنود، لا يوجد نهاية لهذه الرواية فأنت المالك هنا حتى إشعار آخر، ولتكن اسم الرواية "كل شيء متاح" أو "أرض الباقين" أو "لكل مواطن خمسة بيوت" أو "مدينة للإزالة" أو "نحن الناجون".

* الطعام قبل الكتب في غزة، الآن. بالتأكيد توافقينني. ما هو آخر كتاب قرأته قبل ٧ أكتوبر؟
- نعم أوافقك، فبعد شهور من الحرب وعندما استقررنا في بيت أقارب لنا وأصبحت لدينا خصوصية بعد أن كنا نشارك طعام الفطور والغداء مع عشرين شخصا وكذلك المشروبات أو على الأقل مياه الشرب لمدة 3 شهور، فالآن، ممكن بحسبة بسيطة أخبرك أن فطوري يكلفني في اليوم الواحد ٢٧ شيكلا مع القهوة إذا شملنا تكلفة الغاز أو الحطب والمواصلات، وذلك بعد الاستقرار وتوفر بعض المواد الغذائية في الأسواق بينما الرواية سعرها ٢٠ شيكلا فقط واستغرق ثلاثة أسابيع لقراءتها.
وعلى ما أذكر فـ"السندباد الأعمى" للكاتبة الكويتية بثينة العيسى هو آخر كتاب قرأته قبل الإبادة.

* الجنود يقتحمون خصوصية غرفنا وبيوتنا. ما الذي تخافين أن يحطموه؟
- الجنود اقتحموا بيوتنا وغرفنا وملابسنا وأغراضنا وأثاثنا وأسرتنا وخزاناتنا وأحذيتنا وزجاجات العطر ومساحيق التجميل وأوشحتنا الملونة وعقود العمل ومسودات مؤلفاتنا ومكتباتنا وشهادات أولادنا وألعابهم وقصصهم وحقائب مدارسهم، وجعل غزة بلا كورنيش ولا متنزهات ولا مولات ولا مطاعم ولا صالات ولا متاجر ولا بنوك ولا أسواق ولا أبراج ولا فنادق ولا مستشفيات ولا عيادات ولا صيدليات ولا أدوية ولا ملاعب ولا مساجد ولا محاكم ولا أعمدة إنارة ولا شبكة كهرباء ولا مدارس ولا جامعات ولا مؤسسات، للأسف هذه حقيقة وليست مبالغة مني. الآن، جل ما أخشاه أن يحطموا ذكرياتنا وأحلامنا ومستقبل أولادنا.

* ما هو المشهد الذي طرد النوم من عينيك في غزة المجزرة؟
- عندما عبرت الدبابات من خلال شارع النصر ليلة التاسع والعشرين من شهر كانون الثاني الساعة الثانية عشرة ليلا، بقينا تحت وابل الرصاص والرشاشات والقنابل لمدة ٣ ساعات كاملة، اتجه أسطول مكون من ثلاثين دبابة إلى مقر شركة الاتصالات الفلسطينية تحت تغطية جوية وبرية وتمركز هناك ليبدأ عملية عسكرية مكثفة استمرت عشرة أيام، يومها شعرت بالمعنى الحقيقي للخوف وكاد يغمى عليّ يومها من الرعب، كنت أنتظر الموت في كل لحظة وكانت اللحظات ليلتها ثقيلة وبطيئة، فلقد اخترق الرصاص يومها الشبابيك والأبواب والجدران والخزانات ووصلت الشظايا إلى الوسائد والأسرّة التي كنا ننام عليها، وكدنا نموت فعلا، في هذه الليلة، اقتنعت أن بين الموت والحياة فقط لحظة، بعدها إما أن تعيش وتمارس حياتك بشكل طبيعي أو تكون في عداد الموتى وتصنف كرقم في حرب إبادة شاملة تتعطش للأرقام.

* سافري إلى ٢٠٢٨ في غزة ما الذي تشاهدينه؟
- مدينة جديدة بلا أرض وبلا سقف وبلا بيوت وبلا سماء حتى لا تخطئ الطائرات مكانها وتأتي لتقصف بيوتنا، ربما نسكن فقاعات في الهواء أو مدينة مصفحة بالحديد والخرسانة، كما سأتخيل غزة العام ٢٠٢٨ قد أصبحت جزيرة كالمالديف بيوتها بسيطة من الخشب أو الورق المقوى حتى لا تسقط الجدران على ساكنيها وتخفيهم بين طياتها تحت الردم، ولكني لا أستطيع تخيل غزة بلا حروب، للأسف قدرنا منذ الأزل مرتبط بالحروب ومرهون بالصفقات.