تاريخ النشر: 04 شباط 2025

"دلشاد".. محطات خفيّة من صراعات "الدم والذهب" في عُمان!

كتبت بديعة زيدان:

 

تواصل الروائية العُمانية بشرى خلفان، كتابة التاريخ العُماني، سرديّاً، في روايتها "دلشاد.. سيرة الدم والذهب"، والصادرة حديثاً عن منشورات "تكوين" في الكويت، وفي نسخة فلسطينية عن دار "طباق" للنشر والتوزيع، وتأتي كجزء ثانٍ من روايتها الصادرة قبل ثلاثة أعوام بعنوان "دلشاد.. سيرة الجوع والشبع"، عن ذات الدار، وفي نسخة فلسطينية عن دار "طباق بحيث تدور الأحداث في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، وهي الحقبة التي لم تستكملها، على ما يبدو، في روايتها الأولى التي امتدت منذ نهاية القرن التاسع عشر، في دمج ما بين السياسي، والاجتماعي، والثقافي، والتاريخي، والواقع الاقتصادي.
و"دلشاد" هو الاسم الموازي لـ"فرحان"، بحيث سمّته الأم بما يوحي بتفاؤل ما يعاكس شؤم ولادته لأب قتله العطش، في حين أطلقوا عليه أهل مسقط هذا اللقب، "ليوثقوا ضحكات الجوع والفقر"، وهو ما يشكل جسراً رابطاً بين "دلشاد" الرواية بجزأيها، أي عبر الاستعادات التي تتكرر، على مدار الصفحات التي تجاوزت المئات الأربع.
وتعود خلفان إلى توثيق حيوات مهمشي مسقط، بالتوازي مع رصد حيوات من الموسرين، مقدمة مقاربة جديدة لفكرة الجوع، لطالما ارتبطت بمن نطلق عليهم توصيف "محدثي النعمة"، حيث القسوة والعنف صنوان لا يفارقان الكثير ممّن باتوا تجاراً وذوي أملاك، وإن غادرت الرأفة قلوبهم، في تأكيد على الجملة المفتاحية بأن "ما الشبع إلا وهم"!
"أحدث الشبع جوعاً آخر، جوعاً لا أستطيع فهمه، وبقي الخواء على حاله، كاملاً ومستديراً وفارغا".
وكلن لافتاً أن "دلشاد"، أي الضاحك، بات مع الوقت يقاوم "الجوع" بالضحك، لعله يتغلب عليه، أو يؤجله لبعض الوقت، وهو عموماً حالة مرضية تعرف بـ"الضحك القهري"، وهي حالة غير منضبطة قد تفضي إلى انعزال اجتماعي، وفيها تعبير عن حزن كامن وعميق، قد يفضي لا إلى الاكتئاب فحسب بل إلى "الزهايمر"!
وما بين حارات "مسقط" و"مطرح"، تعود بنا خلفان، برفقة شخصيات روايتها، إلى عُمان "أيام زمان"، وتأثيرات الحرب العالمية الثانية في المحميّة البريطانية ما قبل الاستقلال، على أهلها، فنرى "فرحان" يعود من الهند بعد سنوات ليبحث عن ابنته مريم وابنتها فريدة، وكأنه هنا يبحث عن هويته، التي هي هوية بلده أيضاً ما بين سيرتي "الجوع والشبع"، و"الدم والذهب".
ورغم طغيان حضور "مريم" كساردة محورية، بل الأكثر حضوراً في هذا الجزء من الرواية، إلا أنه لا يمكن تغافل الأصوات الأخرى التي عبّر كل منهم بصوته ومن داخل بيئته ببراعة عن مرحلة شديدة الحساسية في السلطنة، ما قبل السلطنة، ومنها شخصيات تبدو عابرة، وشخصية لا يمكن أن تكون عابرة في رمزيّات ما وراءها، وأعني "نظام أحمد رسلان خير الدين".
و"نظام"، عسكري كانت أمه قد زوّجته من ابنة خاله اليافعة، والتي ماتت بعد أول لقاء سريري بينهما، لصغر سنها ونحالة جسدها، فعاد للعسكرية، منقطعاً عن أسرته التي أجبرته على هذا الزواج.
وبعد التعريج على الألعاب الشعبية، وبعض الطقوس العُمانية في تلك الحقبة الزمنية التي نستدل عليها من حدث سياسي، يشير إليه "نظام"، فحين خرج من المسجد انتبه لمن يهرعون إلى مقهى "حاج موسى"، الذي بدأ يحاول الاستماع إلى "الراديو"، رغم التشويش والانقطاعات، ليصدح النبأ "يقول الرجال في لندن أن هناك انقلابا في مصر، الجيش انقلب على الملك"، جماعة يطلق عليهم اسم "الضباط الأحرار، قالوا الجيش فاسد، والملك ضيّع فلسطين، ولازم كل شيء يتغير.. ترا يقولوا في الثمانية والأربعين، يوم قاتلوا اليهود في فلسطين، ضرب الرصاص في صدور جيش مصر بدل اليهود، وقالوا رصاصهم قديم وسلاحهم مغشوش".
ويبدو أن كلمة "انقلاب" التي أثارت جلبة تنضوي على كوميديا سوداء في سردية بشرى خلفان، لم تكن غريبة عن "نظام"، الذي كان قد سمعها حين كان في "بوشهر"، حيث انقلب بكر صدقي في العراق، و"كانت تلك أول مرة أسمع فيها بكلمة انقلاب، تناقلها الطلبة والمعلمون بعجب، ثم بعد مدّة سمعنا أنهم اغتالوه".
وعبر شخصية "نظام" تتكشف لنا سطوة "الإنكليز" في تلك الفترة على مقاليد الحكم الفعلي في السلطنة، ففي "عقيدة العسكر كما تعلّمنا ودُرّبنا، يخضع الجندي لمن هو أعلى منه رتبة، حتى نصل إلى قائد الجيش، الذي قد يكون ولاؤه للسلطان أو الملك.. في جيشنا يعلو الضباط الإنكليز الجميع"، متسائلاً بوجع ما وراء النص: "في هذه الحالة لمن يكون ولاء الجيش؟ لملكتهم أم لسلطاتنا؟".
وما بعد حكايات والدته وأزواجها الأربعة الذين تلوا والده، وتخللت حكاياتهم الحديث عن جانب مجتمعي، وثقافي لا يعرفه الكثيرون حول عُمان، في تلك الحقبة، وإن ما كان شيء من طقوس تخللها السرد بلهجة عُمانية تجعلها مغرقة في المحليّة، وبحاجة إلى البحث لمعرفة ماهيتها، لا تزال على حالها، بشكل أو بآخر.
وفي الوقت الذي كان تطبق فيه القوى الاستعمارية الخناق، ولو دون ملاحظة الراحلين من الجوع إلى الشبع، قبل الغرق في مستنقع الدم بحثاً عن الذهب، تحيلنا الرواية التي تحدثت، بحضور متفاوت تكويناً ومساحة، عن "البانيان" أو التجّار الغرباء، وزراعة "الغليون"، وغيرها.
ومع استعادة "نظام" لسبق السرد، نكتشف أن لا عُمانيّ يمكنه تبوّء رتبة "ضابط"، قبل أن يزجنا في صراعات النفوذ، بحثاً عن "الذهب الأسود" (البترول) ما بين السلطان و"الإمامة"، دون غياب الإنكليز بطبيعة الحال، فنراه ينقل "بلغنا أن السلطان أمر بإنشاء قوة من 400 جندي لتحمي شركة البترول في الحقف، على أن يكون كلهم من أهل الباطنة"، ليزج به وعدد من رفاقه في مهمة صعبة لا تبتعد عن هذا الإطار، تحت إمرة الضابط الهندي في الجيش العُماني، الملازم "قدير خان"، حيث يقيمون في خيام بائسة، ليأتي بعد أيام، "موظفو شركة نفط العراق ومهندسوها ومساحوها وبعض الضباط مع الكولونيل كوريات"، وهو كولونيل بريطاني، رافقه أيضاً شيخ المنطقة، وإنكليز آخرون تبين أنهم "من موظفي الشركة القادمين من عدن"، وكيف كان البؤس في معسكرهم الذي شاركهم فيه المساعدون السودانيّون للقائد الهندي، مقارنة بالمعسكر البريطاني، الذين يصفهم بأصحاب الوجوه البيضاء، في إشارة إلى الاستعمار الكولونيالي الإحلالي، الذي جاء بمن جاء من أجل الذهب الذي لم يكن لامعاً، لكنه ثمين للغاية، حد سقوط الكثير من الدماء في معارك الاستيلاء عليه، وهي المعارك التي لا تزال مستمرة في العديد من جغرافيات العالم، بما فيها الجغرافيات العربية.
دارت حرب شرسة بين جيش السلطان ورجال الإمامة من أجل "الذهب"، وسقط الكثير من الدم، لتضع رحاها مؤسسة لتوحد البلاد تحت راية السلطان، بعد فرار الإمام "غالب" إلى خارج البلاد، وإن لم تكن مساعي الإنكليز انتهت للسيطرة على "بترول" السلطنة، وهي الحرب التي سمع عنها "دلشاد" في السجن، الذي أدخل إليه بعد حالة تيه في البحر، ونُسي مع المنسيّين الكثر هناك، قبل أن يخرج منه بلا ذاكرة!
بأسلوب لا يخلو من التشويق، يعكس خبرة الروائية المتمكنة من أدواتها، تقدّم لنا بشرى خلفان، في "دلشاد" بجزأيها من حكايات "الجوع والشبع" إلى حكايات "الدم والذهب"، سرديّة تأريخية بتقنيات درامية بعيدة كل البعد عن تقنية "القص واللصق" عند الحديث عن التاريخ، ومحاولات توظيفه روائياً، لتشكل مرجعاً إبداعياً مهماً عن بلادها.