
حاورها زياد خداش:
تكتب الشعر وكأنها تهمسه، صمتها صديقها، ذكية في إدارة حياتها الثقافية، ذات حس انساني في القصيدة والحياة، في رصيدها: "ماذا لو اطعمتك قلبي"، "شامة بيضاء" و"كأني هنا"، أظنها تكتب لتبقى على قيد الدهشة، الدهشة التي لا تظهر في ملامحها، ربما تخفيها تحسباً من خلل في الزمن أو تدسها في القصائد، حفظا لها من فساد الوقت وسطحية الأشياء المحيطة بنا. هنا دردشة مع الشاعرة ايمان زيّاد.
*الشعر بالنسبة لك: تفكير ام تعاطف؟
-الشعر تفكير في التعاطف، التعاطف الذي هو أبعد مما تعنيه الكلمة، بيد أن التفكير يشترك به العقل والروح معاً، لا أعلم كيف لقصيدة أن يؤثث لها العقل لوحده دون تصميمها وحياكتها في مصنع الروح، تبدأ القصائد في مكان ما وفي نقطة محددة، مثل النقاط الثلاث التي نضعها عوضاً عن كلام لا نستطيع تحديده في لحظة معينة... كهذه، ثم تتحول النقاط إلى هالات كبيرة يبتلعنا وميضها في محاولة للعثور على نص شعري حقيقي، صحيح أن الشعر يأخذ هيبته من العاطفة لكنّ ذلك يحدث فقط حينما يُمعن/تُمعن الكاتب/ة بالتفكير في التعاطف وتناول العاطفة من زوايا عدة، وهذا ما قد يدفعنا في كثير من الأحيان للانزواء نحو الصمت البارد قبل الاعتراف، ولا يكون الاعتراف بنص شعري إلا أبعد منا وأعمق. الشعر بالنسبة لي؛ انخراطنا في جماليات ناصعة وتنبؤات فكرية نتيجة تفكيرنا بالتعاطف، وليس بالضرورة أن يكون انخراطنا معقداً فليس هناك أجمل من بساطة الطرح وعمق المعنى.
*الكتاب الذي لا تسافري دون أن يكون في حقيبتك. رفيق السفر ما هو؟
-"الضوء الأزرق" لحسين البرغوثي، الكتاب الذي يشير للفراغ الذي يرينا الحقيقة، الكتاب الذي صافحني بحرارة مع الصفحة الأولى، والذي أكتشف وجها آخر له كل مرة أتجوّل به، شعرت بمكره وجنونه وضياعه وأرجحته، الحالة التي بين الهُنا والهناك.. الأنا والكل، بالنسبة لي أحرص على تذكّر نفسي من خلاله.
*كفلسطينية تعيشين تحت الاحتلال هل يخاف الاحتلال من الشعر الفلسطيني. وإذا كان الجواب نعم ما دليلك؟
-الاحتلال يخاف توثيق الحكاية، بغضّ النظر عن طرق توثيقها، سواء كان ذلك من خلال كتب التاريخ الجامدة أو المناهج المدرسية، أو أشكال الفنون المختلفة أو أصناف الأدب المتنوعة، تاريخنا حافل باغتيالات لأعلام أدبية وفنية واستهدافات لتشويه رموز أدبية عدة، أذكر في الانتفاضة الأولى كيف كانت الأغاني الوطنية مثلا تهمة، كيف كانت الفعاليات الثقافية جريمة، وعلى مرّ تاريخ نكبتنا وحتى اليوم ما يزال الاحتلال يتربّص حتى في معتقلاته للقصيدة والرواية والقصة وغيرهم ويودع كاتبها/كاتبتها الحبس الانفرادي ويكيل لهم/نّ التهم الإضافية. أما الشعر فهو الأقرب للسمع والأسهل للتداول، صاحب الصور المطبوعة والعميقة في الأذهان المتوحد مع العالم بتفاصيله الروحية الواحدة، الذي ينتشر حاملاً معه توثيقاً لحكايتنا ويتردد بلا توقف، علي فودة وعبد الرحيم محمود وكمال ناصر وهبة أبو ندى، عمر أبو شاويش وسليم النفّار وآخرون كثر قد لا يتسع قلب شاعر لتسميتهم جميعاً، كلّهم قضوا شهداء بسبب الاحتلال ليس لأنهم فلسطينيون فحسب، بل لأن للشعر وقعاً يصعب محوه من الذاكرة.
*الأمومة والمهنة هل شكّلا دافعاً للكتابة عندك حتى تهربي من عبء العادي وهل كانت الكتابة عبئاً عليهما؟
-كل تجربة نمر بها تشكّل دافعاً للكتابة بشكل ما، لكن هل دافع الكتابة فعلا هروب من عبء العادي؟ لا أعتقد ذلك، الكتابة عالمنا الموازي للتعبير عما لا يحتمله العبء العادي، وأحياناً للبحث عن جمال العادي الذي نحياه ليصير غير عادي، فمثلاً المهنة سمحت لي بالتأمل أكثر في تجارب الآخرين العادية وإيجاد غير العادي فيها، كسؤال صغير؛ الطبقية الخفيّة الواضحة كيف تصنّفنا ونصنّف نحن غيرنا، فنحن جزء منها بالضرورة؟ الأمومة دافع يحتاج إلى صفحات للكتابة عنه، لكنّني دائما أقول أن الأمومة تأتي قبل كل شيء لأن ثمّة صدقاً ووضوحاً نحتاجه حين لا نترك أبناءنا خلف الركب لتصْدُق معنا القصيدة وإلا خذلتنا. أنني عبء على الكتابة حين أؤجل كتابة نصّ وأختبئ منه مثلما تتجنب الدائن دون سداد حتّى يقفز لك من النافذة ويقتحم عليك مخبأك.
*هل تشعرين أنك ظُلمت بشكل ما في الوسط الثقافي؟ هل أنت غاضبة من المناخ الثقافي في فلسطين؟
-حالة التشوّه الثقافي حالة عامة في العالم وليست حالة خاصة بفلسطين، هذا لا يلطّف الحالة هنا أو يخفف وقعها، لكنني لست غاضبة، ربما لأنني أسأل نفسي دائماً ماذا أريد من الشعر، وهل فعلاً الوسط حقاً وسط ثقافي، كلمة مثقف كلمة ليست ببسيطة ومضحك جداً أن يسعى الإنسان لتسمية نفسه مثقف/ة أو حتى شاعر/ة وهو/هي يعلم/ت الحقيقة. لا أتوقع أي شيء من الوسط الثقافي لذلك لا أشعر بظلمه أو إنصافه على حدّ سواء. النصّ هو الذي يبقى والشاعر الحقيقي لا يموت.
*تسافرين كثيراً إلى المغرب العربي وتشاركين في أمسيات ومهرجانات. احكي لنا عن علاقة المغرب بفلسطين ثقافياً. لماذا أحس أن المغرب وفلسطين شقيقتان. من ام واحدة هي اللغة وأب واحد هو الشعر؟
-دائماً يُخيّل لي أن ثمّة جنيّة تنقل هوية وأخبار وأحلام وهواء وروح فلسطين على امتداد ساحل البحر الأبيض المتوسط لتحط رحالها في المغرب وبالعكس، ولا أخجل من أن أقول بأن مرّتي الأولى هناك كانت بمثابة الوقوع في الحب لأول مرّة، حين يكون الوقوع عميقاً دون حسابات وتفكير، مذهلاً في التفاصيل وموشوماً في الروح، والأهم بأنه مفعم بالمفاجآت التي تُخجلنا أحياناً، فنحن وبسبب انغماسنا وبعدنا عن التفاعل بحرية مع الشعوب وبسبب قيود الاحتلال يظلّ همّنا الخاص محطّ اهتمامنا الأول على حساب التعمّق بتاريخ وحكايات امتدادنا في بلاد كالمغرب، أقول امتدادنا لأنني أزعم أن أبعد علاقة بين البشر لا تتعدى خطواتها أصابع اليد. لا تشعر بغربتك في المغرب فانت بين أهلك، المحبة حقيقية كأننا من بطن واحدة وفرّقنا مشرط الحدود، أجدني هناك وأجدها تعود معي حينما أعود.
*من هو الشاعر الذي صعقك في بداياتك وسرقت منه كما سرقنا جميعاً عباراته ولغته؟
-في البدايات نميل للكتاب الذي يقع بين أيدينا، الصدفة غالباً توجّه طبيعة القراءة الأولى، في البدء تأثرت بالشعر الجاهلي وقلدته ثم مسحت ذاكرتي كل بيت حفظته، ثم نزار قباني وتعلمت منه البساطة والإطالة في القصائد والجرأة في الحديث عن الحب وقلدته ثم خرجت منه بسلام، ثم جربت قراءة الجدارية لمحمود درويش لكنني فشلت في فهمها، هجرته سنوات كثيرة، وحين قررت أن أعيد قراءة المجموعة الكاملة لدرويش وجدتني أعيد قراءة نصوص حديثة تمر أمامي على مواقع التواصل الاجتماعي وردت في وقت سابق على لسانه، وكأنه انعكس الزمان، لذلك شكرت القدر الذي خاصمني مع نصوص درويش حتى تكوّنت هويتي.
*أعرف كم أنتِ معذبة من اجل غزة. قولي شيئاً لأطفال غزة.
-لا يخرج من حلقي غير كلمة آسفة، لا يجب أن يحدث ما يحدث، وكم تمنيت في كل مرة نعود لموقع الفريسة على الشاشة، تلك الفريسة التي يشتهيها الاحتلال، أتمنى أن:
أبسط كفي.. حديقة؛
تتأهب بين شقوقها المراجيح
وتدوي في سمائها فتنة التحليق
فينشغل بها الموت
عن أطفالنا
ولو برهة..
لكنها تبدو أمنيات حالمة..
زرت غزة في مهام للعمل أربع مرات، كنت أحرص على حفظ شوارعها والتنقل في مدينة غزة وحي الرمال والشيخ رضوان وغيرها مشياً على الأقدام، كنت أشعر بأنه من حقي أن أترك أثري على الممشى الرملي تجاه البحر، حيث كان الأطفال يعرفون بأنني ضفاوية بسبب اللهجة ويهمسون لي "خبينا معك في الشنطة"، يا ليتني.. ليتني أخبئكم في قلبي.