تاريخ النشر: 28 كانون الثاني 2025

"مدار الكلب" لإسماعيل يبرير.. سردية مغناطيسية في مديح الكائنات!

 

كتبت بديعة زيدان:


حضر الكلب كثيراً في السردية العالمية والعربية، روايات وقصصاً، كان من أشهرها في العناوين كما في المتن، "تحريّات كلب" لكافكا، و"السيدة صاحبة الكلب" لتشيخوف، و"تمبكتو" لبول أوستر، و"الكلب الشارد" للإيراني صادق هدايا، وعربياً "اللص والكلاب" لنجيب محفوظ، وأيضاً "حرب الكلب الثانية" لإبراهيم نصر الله، وغيرها.
لكل من تلك الأعمال خصوصيّتها وخاصيّاتها التي تميّزها، كما هو حال المجموعة القصصية "مدار الكلب" للروائي والقاص الجزائري إسماعيل يبرير، والصادرة حديثاً عن دار صفصافة للنشر والتوزيع والدراسات في القاهرة.
وتتوزع المجموعة التي تتميز بعبقرية التكوين، وآليات الطرح، وطرائق السرد، وتنويعات الترميز، على تسع قصص، لكل منها عوالمها على أكثر من صعيد، بحيث تشكل كل واحدة منها نسيجاً متفرداً، وإن كانت تلف جميعها في "مدار الكلب".
في قصته الأولى "الطاحونة"، أو "النهايات القاسية لجاك والقرد والكلب"، يُقدّم يبرير مرافعة سردية، تمزج في تأويلاتها، بعد الانحياز إلى الإنساني والحيواني في وحدة الكائنات كسائر قصص المجموعة ما بين السياسي، والاجتماعي، والثقافي، والديني، وصراع الطبقات، والسطوة الرأسمالية، والبحث عن "البطل" في المجتمعات المنهكة والمهمشة والفقيرة جيباً وعقلاً وجغرافيا، في حبكة تمزج السيكولوجي بالسوسيولوجي، مُقدّماً تركيبة درامية ذات حبكة متماسكة، ورؤية ثاقبة، تؤكد أننا أمام كتابة غير عابرة، وصاحب سردية على درجة عالية، ليس فقط من الثقافة والمعرفة، بل من إدارة الأدوات الإبداعية على تنوعها في نصه.
شكلّت "الطاحونة"، مسرحاً للحديث عن سطوة المجهول، متمثلاً في شخصية "جاك" القادم من "مكان مجهول، ونزل كأنه السيد"، والقمع الواقع على المرأة مُمثلاً بحكايات "شهيرة"، وصراع الأجيال والأفكار والعقول، وتلاقحها أيضاً، كما في تلك العلاقة الملتبسة ما بين المسنة "فريحة"، والوافد الجديد إلى الحي، أو تلك التي باتت حميمة إلى حد ما بين "جاك" الذي ما هو بـ"جاك"، و"المكي" صاحب "طاحونة القرد"، الذي ساهم في تغيير المفهوم المختلف للسحر في زمن تكسّر الجاذبيّات التقليدية، وليس بعيداً عن حب بقي في المخيال، فحبيسة منزلها التي لم تنطق إلا بعد ظهوره وغيابه وظهوره مجدداً وغيابه مرّة أخرى، فـ"جاك"، بالنسبة لها، هو "الرجل في اكتماله، يحدث مرّة واحدة في العمر، وقد لا يحدث لعديمي الحظ".
في قصته "محفل الممكن"، ثمة فلسفة عميقة لم تطغَ على براعة السرد، وفيها انتصار للمهمشين الباحثين عن سرقة لحظات من الفرح، في منزل الرجل الغامض، وما هو بغامض، لقناعة سرعان ما كسّرها وأدماها عناصر الشرطة، كما الجيران الذي لم يستوعبوه "مشرّداً" بات يسكن بينهم، ويحتفل رفقة صاحبته، ومشردات ومشردين، وكلب "خجول من عالم المنسيين"، مُصرّاً أن يعلي صوته بأنه، ورغم الأوجاع، فإن "الأفراح أكثر من أن نحصيها، غير أن انشغالنا بالهموم الصغيرة والمآزق العابرة هو ما يمنعنا من اكتشافها"، قبل أن يعود من مركز عسس العصر الحديث، بخريطة من الدماء على صدره وكتفيه، رغم محاربته ورفاقه المستميت من أجل إكمال "الحفل"، الذي لا يروق لمحتكري الآدمية، أن يكون لغيرهم شيء يقومون بفعله، ولو بشكل مغاير، فاحتفال من يرونهم "مجانين"، ولا يستحقون الفرح، يتسبب في قرحة معوية، ولو مؤقتة، لعلية القوم، أو أسقطهم.
القصة الموسومة بـ"الفأر الذهبي" تمحورت حول "لقمان"، الذي يطلق عليه سكان الحي اسم "الفأر"، بحيث يتماهى مع اسمه هذا حتى ينسى اسمه الحقيقي، وبات يحنّ على الفئران ويعتبرها أهله، بل يخشى القطط أيضاً، هو المولود لأب يتقن التسلط والمسكنة في آن، حتى "بات منبوذاً بعد الاستقلال"، لدرجة أنه "صار رجلاً بلا وجه، وجسداً بلا ظل، وحين مات لم يحضر عزاءه إلا بعض السكارى القدامى، وقليلٌ من الجيران".
وفي القصة التي تغوص في أعماق النفس البشرية، وكيف ينظر المرء إلى نفسه، وبالتالي إلى الآخرين، يحاول "لقمان" التمرّد على فئرانيّته، لكنه يفشل، كما هو حاله في مواجهة رعبه من القطط ومواجهتها، خاصة بعد اتصال الوزير، واقتحام القطة الضخمة لمسكنه، ولعبة "توم وجيري" السردية المذهلة على طريقة يبرير، حيث راح يصغر حتى كاد يختفي، بينما راحت تكبر حتى فاقت الصالون، في تماهٍ مع كونه فئراً، دون أن يتأكد من قاتلته المفترضة أنها لا تأكل البشر، ليصفعه الوزير، الذي تبسّم في وجهه للمرّة الأولى، بإحالته للتقاعد، في حين أن صديقته الوحيدة "روزا"، تبلغه أنها ستقيم في منزل أمها لحين مغادرتها البلاد نهائيّاً، ليغادر "الفأر المتقاعد" عالمه، منتقداً سياسات "التوزير"، وكيف كل من يأتي يلغي ما فعله سابقه، ويتحوّل كلباً ينبح ثم ينبح، ليواجه القطط التي اعتادته فأراً، قبل أن يملأ نباحه المكان، وكأنه استعار مقولة أجاتا كريستي: "لن أتوقف حتى أنجح، لابد في النهاية من النجاح"، وكان نجاحه هنا أن يتحوّل كلباً!
وفي "رجل في الرابعة مساءً أو صباحاً"، يذهب بنا يبرير إلى عالم بلا ظلال، فلم يكن هو "صاحب الظل الطويل"، بل بلا ظل، كما غيره، في حين توقفت عقارب الساعة عند الرابعة التي لم يعد يدرك صباحها من مسائها، في زمن رقمي يتجاوز استيعابه لمكانه أيضاً، حيث "الروبوتات"، التي يصفها دون أن يذكرها، والقطارات السريعة، و"التاكسي الطائر"، بينما كل العابرين في المحطة، كما في الشوارع، غرباء عنه، أو هو "المنفي"، كما يصف نفسه، قبل أن يكتشف أنه قادم من عالم "الأثريّين" القديم، الذين يصفهم العابرون الجدد، بالحاقدين على المُبرمجين من "البشر" أو "اللابشر" في الزمن الرقمي، أو ما بعد الرقمي، والذي لا يفهم لغته القادمون من عالم القدماء إلا إذا ما تبرّعوا بعضو من أعضائهم لا يزال يحط في واحد ممن يعيشون ويعايشون عصر الآلة، والغابة الإلكترونية التي قادته إلى ظله مجدداً، لكن دون أن يعثر في تيهه على أي من أبناء زمانه، في حالة من عدم اليقين، كسيح القدمين في زمن الزوال، ينتظر أو يناظر "الرجل النملة".
وكأنه هنا يحيلنا في نهاية قصته الرابعة إلى حكاية الفيلم الهوليوودي الذي رأى النور قبل عشر سنوات، وتمحور حول "بطل خارق" يستطيع أن يكون بحجم النملة، ومن شدّة صغره لا يراه أحد، فيستطيع أن يسدد ضربات وركلات مدمرة لأعدائه، على عكس التائه "الأثري"، كما يمكنه أن يختبئ في ملابس أعدائه، أو في أقدامهم، أو في جيوبهم، أو في شعرهم، أو في أفواههم حتى، في استعارة لزمن قادم أو أطل برأسه لا يجد نفسه ولا حتى ظلّه أو مدينته أو عشيرته فيه.
ولسبب مجهول يختفي الكثير من الوجوه في شوارع الحي الرئيس، المعروفة على مدار سنوات، ليصبح الغريب هو الوجه الأكثر حضوراً، وشاغل الناس، هو وقبعته، التي يخالها أصحاب الوجوه المختفية قبعة ساحر، ينسج عنه وعن غرائبيته وسحره الكثير من الحكايا على لسان "محجوب" وغيره، ليتبّين أنه يخفي الفاجعة تحت قبعته!
وهنا يبدو يبرير ساحراً في صياغة قصصه لتحقق مراميها بمغناطيسية فائقة، وهو ما كان في "قبعة الغريب"، كما في "إنقاذ الشجرة المخطوفة"، حين يعشق رجل شجرة، بل يرى فيها معشوقته، يحضنها ويقبّلها، بينما تنقذ هي حياته، لكنها تختفي، في وقت تصنع الجرافات جراحاً عميقة في أرضها، بغية إنشاء مدينة سكنية، ليعثر عليها حزينة في أرض بعيدة، بحيث بدت "أصغر حجماً"، محبوسة خلف سياج شائك ليس من السهل تخطيه، فقرر تحريرها بمساعدة رجل أخرس.. وبعد تفاصيل كثيرة، وطول محاولات، وبينما كان يقضي حاجته، حصل هرج ومرج، فخال أن رفيقه نجح في تحرير معشوقته الشجرة، لكن بندقية موجهة إلى صدره من رجل كان يوثق كلباً ضخماً بيده الثانية جعله يجثو أرضاً، ليعتلي الاثنان الشجرة محتميين بها بدلاً من إنقاذها، قبل أن يسجنا لانتهاك ملكية خاصة، ويخرج مودعاً صديقاً غير قادر على الحديث، ولكن متحرراً من أوهامه.
في "عازف الورق" ينقلنا يبرير، وهو يسرد حكاية "موسيقار" الحي، ومصلح أعطال الغاز، والكهرباء والماء فيه، إلى سطوة المشاعر، وكأنه يتكئ على مقولة ديستويفسكي بأنه "دون الحب، كل ما تبقى هو العدم"، فـ"بوزيد"، الذي كان يعزف بالورق، وهي موهبة اكتشفها، حين احتجزه زوج أمّه في المرآب لأيام ثلاثة، فبات يُطرب "جمهور الصدفة"، ويقف ليقدم عرضه "في مداخل البنايات، أو في خلفيات الشوارع، أو أمام شجرة حزينة وحيدة على طريق ما، أو أمام كلب أخرس، أو على عتبة أنقاض بيت هُدم"، قبل أن ترفعه "مليكة" إلى السماء ثم تطرحه أرضاً، حتى بات يطوي ورقته، أو آلته الموسيقية، ويطوي معها سعادته.
وفي "عائلة بيتشو الشريدة"، يحدثنا القاص عن مفهوم العائلة المتغيّر، عبر حكايته وزوجته والكلب والسلحفاة وعصفوره المفضّل "شواز"، و"داليا" التي يعهد إليها برعايته، فتطلقه من قفصه، ليبقى وحيداً لولا حضن عابر، بعد أن افترق وزوجته التي لطالما انحازت لكلبها على حسابه وعصفوره، بينما قررت السلحفاة "الحياد"، مستذكراً ما سمعه ذات مرّة من أستاذة متخصصة في الأسرة، بأن "مفهوم العائلة عرف تطوّراً، فصار يمكنه أن يتحقق لدى البعض بوجود إنسان وكائن آخر، رجل وشجرة، امرأة وقرد، عجوز وجحش صغير"، معتقداً أنه ربّما ينتمي لهذا المفهوم المتطور، بحيث شكل حياته مع عصفوره!
ويختم يبرير مجموعته بقصة "التباس ألماني"، وهي تتحدث عن الوحدة وعن الحب، وقبل كل شيء عن مفهوم الهوية، ومفهوم الوطن، وإن كان فيما وراء السرد، أو في تأويلاته، وكما في كل القصص، دون شعارات أو خطابية أو لغة استعراضية، مقدماً للقارئ أكثر من "مدار" سردي، مؤكداً أنّ "ثمة دائماً كلباً في الحكاية"!.