
حاوره زياد خداش:
من أشهر شعراء سلطنة عُمان، شاعر ومترجم، لديه العديد من الدواوين، ولد في العاصمة مسقط العام 1963، حاصل على عديد من الجوائز - التكريمات، بينها: جائزة الثناء السلطاني، وجائزة توليودا الإيطالية، كما شارك في العديد من المهرجانات والأمسيات الشعرية العربية والدولية، ويعتبر من المجددين للقصيدة العربية.. شارك مرتيّن في دورات معرض فلسطين الدولي للكتاب، وكان ولا يزال متميزاً في نصه.. هو الشاعر المنتمي للألم الفلسطيني، هذه دردشة معه:
* أنت شاعر ومترجم وإعلامي.. كيف توزع وقتك ومزاجك وحبك بين هذه العوالم؟ هل ثمة ظلم لأحد منهم؟ هل من معارك عائلية؟
- ثمة أصوات كثيرة تتنازعني، ولديّ ميول وأهواء متداخلة في عالم الكتابة، لكن الصوت المدلل والأثير لديّ هو نداء القصيدة .. الشعر هو الخيار الأول، وهو صوت الروح ونبض الضمير.. الترجمة أشبه بالمهنة، والإعلام كذلك، أما الشعر فهو خارج كل هذه الاعتبارات، لأنه بالنسبة لي يمثل المعادل الوجودي للحياة.
إنني لا أقلل من قيمة أي من المجالات، ولي فيها جميعاً منجزات وتجارب أعتز بها كثيراً، ولكن يظل الشعر هو الأقرب، وهو الأكثر حساسية، فهو لا يقبل المزاحمة والشركاء، وعلى الشاعر أن يخلص للشعر حتى يخلص له الشعر ويعطيه خلاصاته ويمنحه هباته وفيوضاته الجليلة.
ومن نافلة القول إن الكثير من الكتاب والمبدعين لا يقتصر نتاجهم على مجال واحد بعينه، وإنما تتنوع فضاءاتهم بين أنساق الكتابة المختلفة ويزاوجون بين أكثر من مجال، بل ويبدعون أيضاً، والأمثلة هنا أكثر من أن تحصى .. ولعل مهنة الصحافة تشكل العامل الأبرز لدى أغلب ممتهني حرفة الكتابة.
* كنت في فلسطين أكثر من مرّة.. ما الذي صدمك وحيرك وأسعدك وأخافك فيها؟
- فلسطين دخلت قلوبنا وسكنت أرواحنا قبل أن ندخل أرضها.. أنا من جيل تشرّب في مقرراته الدراسية بأناشيد التحرر والعروبة ومبادئ الكرامة الإنسانية والذود عن الحقوق السليبة التي تأتي فلسطين في مقدمتها، وعندما تفتحت مداركنا أكثر جاءت أشعار الفلسطينيين أمثال سميح القاسم وتوفيق زياد ومحمود درويش ويوسف عبد العزيز ومحمد القيسي ومعين بسيسو وغيرهم، لتعمّق فينا هذا الشعور بالانتماء الروحي والوجداني والإنساني لفلسطين. كما قرأنا فلسطين، كعُمانيّين، في أشعارنا وآدابنا الوطنية.
جئت إلى فلسطين وأنا أحمل في داخلي كلّ هذا الإرث من التصورات والنوازع والقصائد والمشاعر.
زرت فلسطين مرتين، وفي كل مرة كنت أشعر أن دخولي فلسطين لا يشبه دخولي أي بقعة من بلاد الله الواسعة.. كان مزيجاً من الدهشة والفرح والشغف والألم.. إنه شعور بحّار عُماني كانت فلسطين تلوح له في كل موجة من مياه بحر عُمان الأسطوري، وإحساس شاعر عُماني يأتي من أقصى جزيرة العرب، مُحملاً بكل تلك القصائد الطافحة بعشق فلسطين.. ما أعرفه أن كل زائر لفلسطين سيغادرها كما فعلت أنا، ولكن فلسطين لا تغادر زوّارها.
* حصلت على جائزة توليولا الإيطالية للشعر العالمي في العام 2019.. لو سألنا شاعراً أوروبياً شهيراً الآن أو أكاديمياً في إحدى جامعات أوروبا عن أهم شعراء العالم العربي.. كيف تتوقع إجابته؟
- هناك أسماء بارزة في المشهد الشعري العربي ربّما يكون لها الحظ الأوفر في الحضور على الساحة العالمية، نظراً لما حظيتْ به من صيت محلي وعربي، أسهم في ترجمة أعمالهم ونقلها إلى لغات أخرى، وقد لا تقتصر الشهرة عالمياً على الشعر العربي المعاصر، وإنما هناك شعراء عرب قدامى يحظون بشهرة عالمية، أمثال امرئ القيس، وأبو الطيب المتنبي، وشعراء التصوّف وغيرهم.. ولعل من الشعراء المعاصرين يبرز شعراء أمثال: أدونيس، والسيّاب، ومحمود درويش، ونزار قباني، وسميح القاسم، وعبد الوهاب البياتي، وسعدي يوسف.. أقصد شعراء العصر الذهبي للحداثة الشعرية، قبل أن ينقلب الحال ليتسيد المشهد شعراء مواقع التواصل الاجتماعي.
* من هو الشاعر العربي الذي تابعته منذ زمن وما زال يبهرك؟
- عمري القرائي يمتد إلى قرابة ثلاثين عاماً، مررتُ فيها بأغلب نتاج الشعر العربي عبر عصوره المختلفة، فتوقفت عند أشعار ما قبل الإسلام وأصحاب المعلقات والحوليّات وأشعار الصعاليك، وعرجت على شعراء العصور الإسلامية، كما شدني شعر المتصوفة، بما اجترحه من فتوحات في بنية اللغة الشعرية والتحول في تشكيل الصورة المبتكرة واستخدام الرمز وغيرها من التقنيات السابقة لزمانها.. وكانت لي أيضاً وقفات مع الشعر العربي المعاصر وتيارات الحداثة الشعرية التي غذّت وعينا بقيم جمالية وإبداعية لم نعهدها من قبل.
وعرجت أيضاً على الشعر العالمي المترجم، وتوقفت عند العديد من رموزه الكبار.. أنا أيضاً قارئ جيد للشعر العُماني، فنحن في عمُان لدينا تراث شعري هائل، فالشعر هو المكون الأبرز في الثقافة العُمانية عبر تاريخها.. إننا أحفاد الخليل بن أحمد الفراهيدي، وابن دريد، والمبرد، من أعلام الشعر واللغة العُمانيين، الذين أسهموا بعمق في الثقافة العربية والإنسانية جمعاء.
لذلك، فإنه بعد هذا التجوال الشاسع في حدائق الشعر لم يعد هناك مجال لشاعر أوحد يمكنه أن يستأثر بالذائقة دون غيره، ولكن يظل هناك شعراء معدودون أكتشف الجديد والدهشة في نصوصهم كلما قرأتهم.. ولعلي أشير هنا إلى أسماء مثل: محمد علي شمس الدين، ومحمد الماغوط، ومحمد حسين هيثم، ومحمود درويش، وعبد الله البردوني، وأبو نواس، والمتنبي، ورامبو، وناظم حكمت، وبابلو نيرودا، وطاغور.
* ماذا يمكن أن تقول لغزة يا حسن؟
- أعتقد أن المرحلة ليست مرحلة الكلام. فالأمر أكبر بكثير من القول والخطب والقصائد والفتاوى.
هناك أطنان من الكلمات تهدر كل يوم باسم غزة وفلسطين، ولكنها تذهب أدراج الرياح.
ما جدوى الكلمة في وجه الإبادة الممنهجة؟ ما جدوى القصيدة في وجه المدفع والصاروخ؟ ما جدوى الخطابات في وجه الآلة العسكرية المتوحشة؟ لقد بات واضحاً تماماً أن العالم الآن لم يعد يؤمن إلا بلغة القوة فحسب، أما الكلام فقد مللنا منه وسئمته مسامعنا.
ثمّة لحظات تخونك فيها اللغة وتتضاءل العبارة أمام هول المشهد. هكذا أقف حائراً مشدوهاً من قسوة ما يجري، فلا أكاد أصدق أن بشرية لديها مثقال ذرة من ضمير وإنسانية يمكن أن تصل إلى هذا المنحدر من الهمجية والإجرام.
* مساندة عُمان أطباء وإعلاميين وشعراء ومواطنين عاديين لغزة وجراحها واضحة جداً. ماذا تمثل فلسطين لعُمان؟
- فلسطين بالنسبة لعمان جزء نازف وجرح من جسد عربي واحد نشعر جميعاً بآلامه، ونحس أوجاعه، ونقاسي ما يقاسيه من ويلات، وما يمر به من مكابدات وأحزان لا تنتهي، وحين يتجسد الأمر في تفاعل عملي ومساندة حقيقية على أرض الواقع، فإن ذلك يعد أبلغ تعبير عن صدق هذه المشاعر وإخلاصها وبعدها عن الزيف والتصنع.. فلسطين لدينا قضية عربية وإنسانية عادلة، إنها قضية وطن سليب مغدور، وقضية شعب ذاق الويلات وعانى التشريد وكل أنواع الظلم، وفقد أبسط حقوقه العادلة، في عالم يتشدق بالحرية والكرامة والعدالة ويرفع الشعارات الفارغة الجوفاء عن الحقوق والقيم.
* في مختاراتك "أحدق باتجاه الريح"، ثمة بنية تفعيلية واضحة.. كيف يمكن أن نفهم التفعيلة في زمن التحطم والتناثر؟
- التفعيلة تمثل لي خياراً جماليّاً في الكتابة الشعرية.. أرى أن قصيدة التفعيلة بما ابتكرته من تفتيت لبنية البيت الشعري الصارم، ومعها قصيدة النثر، ربما تقدم نسقاً أكثر ملامسة لواقعنا العربي المتشظي، وما يمر به الإنسان في ظل سياقات ثقافية وتحولات معرفية وكونية حادة تهيمن عليها المادة، وتسير رهينة الطغيان التكنولوجي وسيطرة الآلة بجبروتها وعبثيتها.
ورغم ذلك فأنا متصالح مع كل الأشكال الشعرية، وأكتب أيضاً القصيدة المقفاة في ثوبها الحديث، وأستمتع بقراءة شعر النثر، بل إن أغلب قراءاتي الآن منصبة على قصيدة النثر.. الشعر كائن متحول متمرد متجدد، لذلك فهو يرفض الخضوع للتعريفات والتصنيفات الجاهزة، كما يرفض التقوقع في قوالب تراثية جاهزة.
حين أصدرت المختارات المذكورة، كنت أفكر في قارئ عربي مختلف، إذ تنطلق المجموعة من العاصمة الأردنية عمّان لتحلق عبر مختلف المدن العربية، لذا فقد قمت باختيار نصوصها بعناية من بين إرث كبير من الشعر كتبته خلال سنوات مديدة.