
كتبت بديعة زيدان:
في روايته "حائط خامس"، الصادرة عن "نوفل" دمغة الناشر هاشيت أنطوان في بيروت، يعيدنا الشاعر والروائي والصحافي عبّاس بيضون، إلى يوميّات الحرب الأهلية اللبنانية، في سردية جديدة حول الخمسة عشر عاماً التي لا تفارق الكثير من اللبنانيين والفلسطينيين والسوريين وغيرهم، على المستوى الشخصي، والعائلي، والاجتماعي، ولجهة انعكاساتها الإبداعية أيضاً، مقدماً سردية جديدة من بين سرديات هذه الحرب.
وتتمحور الرواية حول ثلاثة من الشباب في العشرينيات ومطلع الثلاثينيات من أعمارهم، وهم: الشيخ "عبد الرحمن"، و"غريس" و"أنطوان" المسيحيان، ويجمعهم ثلاثتهم أنهم ينحدرون من عائلات "متدينة"، وإن كان تفكيرهم مغايراً لسياقهم الاجتماعي، ومتقدماً عليه، بحيث انجذبوا نحو الشِعر والفن والموسيقى، كما جمعتهم صداقة وجيرة في ذات "الضيعة".
وتعيش عائلة "غريس" و"عائلة عبد الرحمن" في منزلين متجاورين مشتركين بجدار واحد، في القرية الجنوبية المتحابة، التي لا فرق بين مسيحي ومسلم فيها، إلى أن تندلع شرارة الحرب الأهلية، فتتفرق العائلات، كما الأصحاب.
يبدأ السرد بحكاية الشيخ "عبد الرحمن"، ابن عائلة "الغرابنة"، الذي تربطه وإياهم علاقة مرتبكة كما والده المتصوّف، حتى أنهم لم يعيشوا في قريتهم، بل في قرية "واصل" الحدودية في الجنوب اللبناني، وهي قرية تنتشر فيها بيوت المسيحيين، وعلى أطرافها بيوت الشيعة، فكان أن سكن شيخ القرية وقسّها في بيت واحد، مقسوم لاثنين بينهما جدار، بحيث تعيش "غريس" ابنة القس "سليم" في الجانب الآخر من المنزل، بينما "أنطوان" معلّمٌ في مدرسة البروتستانت المجاورة.
و"أنطوان"، هو ابن مختار "الضيعة"، القس "سيمون"، وكان كاثوليكيّاً تحوّل إلى البروتستانتية، وبعدها بات شيوعيّاً، في حين بقي الابن تائهاً كمن يبحث عن هويته، ففي فترة من حياته انتمى إلى الشيوعية، وإن كان يرى أن ثقلاً كبيراً على كاهله، متمثلاً بكونه ابن لقسّ بالأساس.
وكان "أنطوان" يرى أن هناك ما هو مشترك بينه وبين "غريس"، فهما ليسا "أبناء قس فحسب"، بل كانا "عالقين في هذه الولادة"، في حين لم تكن ترى "غريس" سوى أن "العالم أجرد"، هما اللذان تعرفا على بعضهما البعض بحكم الديانة، وإن كانت تجد في "عبد الرحمن" عوالم جديدة عليها.
"أنا التي لم تعرف سوى اللعب، أجد نفسي عالقة بين شخصين، أنطوان، لم أكن غافلة أنه في بالي، أما الشيخ فكان مفاجأة لنفسي.. كيف يمكن أن أستدرجه، هو المسلم البعيد عني ديناً وثقافة، إلى الكلام عن جمالي، ثم أشعر بكلماته تدغدغني، ولا أتوقف عن لعبي (...) هل هو اختلاف الشيخ اللانهائي جعلني لا أحد، أسير إليه دون أن ألاحظ، ليس دينه وحده المختلف، لباسه وسحنته، ولهجته تختلف.. كان وسيماً، لكن بطريقة أخرى".
وهنا يُبرز بيضون أن ثمة جدراناً كانت تسكن في دواخل أصحابها من شخوص الرواية المحورية خاصة، سببها ذلك التكوين الديني والمجتمعي لكل منهم، وهي حوائط تحطمت عندها الأفكار المتسامحة، والتحرر، والحبّ، والفنون، والخروج عن المألوف، بل إنها ازدادت سماكة وقتامة مع اندلاع الحرب الأهلية.
تمر الأيام عاديّة لا يعكر صفوها إلا مشاكل يوميّة بدت صغيرة، خاصة بعد اندلاع شرارة الحرب، بدءاً من "مذبحة عين الرمانة" التي "أودت بـ27 فلسطينياً، فعلها كتائبيون متطرفون"، وهي التي باتت غريس تجدها حرباً "بين مسيحيين ومسلمين"، وترى أن "الحائط" الذي بينهم وبين بيت الشيخ بات "أكثر من حاجز"، مُقررة أنه "من صباح غد لن يكون في إمكاننا تجاوزه حتى بالخيال"، خاصة أن "المسلحين الفلسطينيين" كانوا قد انتشروا في "واصل" منذ زمن، فكان أن رحلت كما كل المسيحيين عنها، بعد انتصاب الحواجز واحداً تلو الأخر منذ ذلك الأول عند الكنيسة.
مع الوقت حطت "غريس" وعائلتها في "جبيل"، و"أنطوان" في "الأشرفية"، في حين بات شقيقه الأصغر "رمزي" عسكرياً كتائبيّاً، يحتل مع رفاقه "المسلخ والكرنتينا"، ويجلون منها المسلمين اللبنانيين عن بيوتهم وأرضهم، قبل أن يُقتل في معركة مخيم تل الزعتر، ليتقمصه "أنطوان" مقاتلاً جديداً دفاعاً عن مسيحيته ولبنانيته في مواجهة المسلمين والفلسطينيين، بينما لم يختلف كثيراً مع "عبد الرحمن"، الذي انضم شقيقه الأصغر "زين" إلى الحزب الشيوعي، وقُتل شقيقه الآخر "محمود" وهو يجول في بسطته، برصاص "الكتائب"، في اليوم الذي عرف بـ"السبت الأسود"، فعاد إلى أهله في "كيس".
أراد بيضون التأكيد في استعادته السردية هذه أنها "لم تكن حرب مواقع، بل كانت حرب تطهير"، ونهاية، ربما ليست مرحليّة، للتعايش بين المسيحيين والمسلمين، وبين جزء من اللبنانيين والفلسطينيين.
وفي زمن "الحرب" لم يكن الحب غائباً في سردية "حائط خامس"، فـ"غريس" التي ارتبطت عاطفياً لفترة ما بـ"أنطوان"، كانت معجبة بالشيخ "عبد الرحمن"، وكان يبادلها الإعجاب، حتى جاءته بعد غياب لتعزيه بوفاة شقيقه، ومن ثم تبات في منزله خشية مخاطر الطرقات ليلاً، ليجمعهما سرير واحد.
يبقى "الشيخ" يتواصل معها راغباً بالزواج منها، بينما تبقى هي مترددة مشوشة باعتباره "رجل دين مسلماً"، هي مهنته، وذلك لباسه وتلك عمامته، بل إنها، وحين قرر القدوم إلى حيث هي، اختبأت بمساعدة "أنطوان" في منزل صديقه "بول"، وكان قسيساً وجدت فيه نسخة مسيحية عن "عبد الرحمن"، يقرأ نيتشه ولينين، ويحبّ السينما والموسيقى والشِعر، كما "الشيخ" تماماً.
ولعلّ الرسالة الأبرز في "حائط خامس" أن الحرب وتداعياتها من تحزّب طائفي وديني وسياسي، أكبر وأقوى من أي علاقة عاطفية مهما سمت روحياً، وهبطت على سرير جسدياً، لتفرّق الحرب ما جمعته القرية، وليتحوّل المنزل بجداره الرقيق، إلى حائط سميك، بل جداراً فاصلاً.
ومع ذلك لا يغيب الأمل بزوال الجدار، أو هدمه، خاصة بمعول الإبداع، ولكونه في متن الرواية متعددة الأصوات ووجهات النظر، كما في عنوانها، جداراً "خامساً"، وفي ذلك استعارة من عالم الفنون، فالجدار الرابع في المسرح هو الذي يفصل بين الخشبة وصالة الجمهور، وعليه يبقى الجدار الخامس، هو اللاجدار القائم على فكرة هدم الجدار الفاصل، والتخلص منه، وبالتالي الخروج من زمنٍ إلى آخر، وهنا من زمن الكراهية إلى زمن التسامح، ومن زمن كلاسيكي تقليدي متجمّد إلى آخر حداثيّ ومتجدد.