
حاوره زياد خدّاش:
صاحب قلب أبيض، حين تراه تخاف من سوداويته، لكن الحب داخله يفيض حين يريد له ذلك، لغته السردية قوية، تزدهر قرب الخيال، يعيش الكتابة كأنها فطوره الصباحي، الكتاب صديقه الدائم، وهو دائم الحديث عن الكتب التي تهز ليله.. في رصيده كتب سردية وروايات، اشتغل فترة طويلة في فرق الاستجابة للكوارث، خاصة في مجال الإيواء وتزويد مياه الشرب وتقييم الأضرار والحرائق، قبل أن يتقاعد متفرغاً لإشعال حرائق الكتابة التي لا إطفائياً يصلح لها، هرب "خلّ"، كما أحب أن أناديه، من مهنة إيواء الآخرين "المساكين"، ليؤوي ويربي أفكاراً صعبة يؤمن بها ويحفرها حفراً على صفحات الورق.. آخر رواياته صدرت قبل أيام، "واختفى أنف أبي".. هذه دردشة معه:
* غاضب دوماً، غير راضٍ عن أي شيء، لكن نصك حميمي ونظيف ودافئ؟
- أنفي عن نفسي تهمة الغضب الدائم، فالحياة لا تحتمل الغضب الدائم ولا تمام الرضا، بل هي محطات، أحياناً نغضب في إحداها وأحياناً نرضى في الأخرى.. أحب النظر للحياة نظرة متفائلة، وبما أن نصوصي لا تسعى لتصوير الواقع بمقدار ما تسعى إلى رسم ما نتمناه من جمال وحب، أحاول تسليط الضوء على ما يجعل الإنسان حالة فريدة بين الكائنات، أي الحميمية والدفء.
* تكتب القصة القصيرة، ومؤخراً كتبت الرواية .. ولا أراك تلهث خلف المطابع والأمسيات .. لمن ولماذا تكتب يا "خل"؟
- في البدء الكاتب الحقيقي يكتب لنفسه، فالكتابة هبة كونية لا يمكن للكاتب تجاهلها مهما حاول المقاومة، شخصياً أحاول إيصال أصوات الكائنات، والناس، والتفاصيل التي تضيع في زحمة القضايا الكبيرة، بمجرد كتابتها تدبّ الروح فيها، وبمجرد أن يقرأها أول قارئ تبدأ بالحركة وممارسة الحياة، بالطبع النشر الأدبي والأمسيات يساهمان بإيصال النص إلى العالم، ولكن الركض خلف الأمسيات يقود أحياناً لخسارة بعض الأصوات في الطريق، بالتالي أقبل الأمسية ولكن لا أركض وراءها.
بالنسبة للشكل السردي، فهناك حكايات تعبّر القصة القصيرة عنها بأفضل صورة، بينما نجد الرواية قالباً مناسباً لحكايات أخرى، أي أن القصة أو الموضوع هو ما يحدد الشكل الأدبي، لكن تظل القصة القصيرة نوعاً من الحفر العميق أكثر من العمل الروائي الذي يحاول التنقيب في مساحات أوسع وأقل عمقاً، ولكلاهما عوالمه الخاصة، ولست مع المقارنة بينهما.
* أنت خجول حد التلاشي في الشارع.. مرة قال لي صديق: كُتّاب القصة القصيرة خجولون.. هل هذا صحيح ؟
- كُتاّب القصة القصيرة صامتون، يتعاملون مع الحياة بلطف حتى يتمكنون من تجنب الضجيج والإصغاء جيداً للأصوات والمشاهد التي تناديهم، فالضجيج والصخب يفسدان المشهد ويذيبان الأصوات، فتضيع القصص.
* إلى أي حد يمكن القول إن الكتابة قتال؟
- الكتابة في الأساس عمل فني، ولست مع تحميلها مهام الثوار والجنرالات والعسكر، لكنها في داخلها قتال وثورة، المهم في جميع الأحوال أن يبرز الكاتب أفكاره في إطار جميل، مثل الرسام، الذي حتى لو شاء تصوير معركة فعليه تصويرها بصورة جذابة وواضحة، وإلا تحول النص إلى بيان سياسي، أو مجرد تنظير ممل.
* ثمة تجمع لكتّاب القصة أنت عضو فيه.. ما للذي تحلمون به؟ هل التجمعات لها قدرة على التغيير ؟
- هو تجمع لمحبي القراءة أكثر منه تجمعاً لكتّاب القصة نجتمع ونتشارك ما قرأناه خلال شهر، وننتقد ونتحدث حول النصوص، يوجد بيننا كُتّاب، وجميعنا نحلم بأن يقرأ الناس أكثر فنجد من يشاركنا شغفنا بالكتب، اليوم القارئ والكاتب يشعران بالوحدة مثل جامعي الأنتيكات، وهذه التجمعات تعطينا دفعة معنوية، ففي وقتنا الحالي، باتت التجمعات الأدبية ملاذات جميلة.. نعم لها قدرة على التغيير، على الأقل من خلال الطاقة التي تبعثها لجهة إبقاء القراءة على قيد الحياة، ولكنه تغيير نسبي وضئيل، فلا يمكن للتجمعات الأدبية أن تحمل عبء التغيير وحدها، هي عامل من عدة عوامل وخطوة واحدة إلى الأمام.
* لك موقف خاص من مذبحة غزة.. نحب أن نسمعه؟
- ما حدث في غزة لم يكن بالإمكان تجنبه، فخلال مئة عام من الاحتلال وعشرات الأعوام من حصار غزة كان لا بد أن يحدث هذا الانفجار، الاحتلال يبالغ في حصاده الدموي من أجل صنع حالة من الصدمة والرعب تجعل الناس يخافون لأجيال من فكرة المقاومة،
لكن أهل غزة ليسوا كائنات أسطورية بل مجرد بشر عالقون في فرن إبادة عملاق، أنا ضد أسطرتهم، وما أتمناه أن تنتهي هذه المذبحة قريباً جداً، وأن تتاح للفلسطينيين كلهم في الشتات أو في غزة وبقية فلسطين الفرصة لانتخاب قيادة تمثلهم حقاً في قرارات السلم أو الحرب، أما الكتابة عن معاناة غزة فأولى الناس بها هم أهل غزة، كل ما يمكن لكاتب يعيش خارج إطار المذبحة هناك، فقط أن يتحدث عن مشاعره تجاه ما يحدث، أو عن القضايا الجانبية التي تظهر مع الحروب كالفقر والتعصب لرأي معين، أو الشعور بالذنب لأنك حي وغيرك يموت، أو الكراهية التي بتنا نلحظ ظهورها بشكل مخيف على صفحات "السوشيال ميديا"، فمن تختلف معه صار يتهمك بالخيانة أو يتمنى لك الدمار، وهذه أمور تحتاج وقفة جادة منا.
* اشتغلت فترة من حياتك في إدارة الكوارث في جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني، هل تستطيع أن تحدد كارثة الثقافة الفلسطينية؟
- عملي في إدارة الكوارث جعلني أرى أن معاناة الناس من المآسي متشابهة، فبكاء الأم التي فقدت ابنها بسبب زلزال أو مجاعة أو وباء لا يختلف عن بكاء من فقدته في الحرب، لذلك كرّست نفسي للكتابة عن الإنسان.
أوضاع الثقافة الفلسطينية لا يمكن فصلها عن وضع الثقافة في العالم العربي ككل: الرقابة السياسية والمجتمعية، وانعدام الدعم المادي والرعاية الحكومية، وتلميع أسماء معينة لقربهم من السلطة أو النظام الحاكم، وعدم وجود سياسة عليا لتشجيع القراءة، لكن تعاني الثقافة الفلسطينية من مشكلة إضافية، وهي حصر معظم الكتاب الفلسطينيين كتاباتهم في مجال وصف المعاناة تحت الاحتلال من خلال تحويلها إلى خطاب سياسي، وهذا يضعفها فنيّاً ويحصرها جداً، وكثيراً ما يتم تصدير كتاب أو رواية وتلميعه، فقط لأنه يناقش قضية وطنية، أو لأن مؤلفه أسير أو شهيد، بصرف النظر عن مستواه الفني.. بالطبع توجد استثناءات من كل أجيال من كتبوا ويكتبون.
* "خل".. اسمح لي بسؤال شخصي: لم أرك يوماً تبتسم، هل هذا موقف من العالم؟
- أحاول دائماً الابتسام للحياة، أنجح وأفشل، أبكي أحياناً وأنفجر ضاحكاً أحياناً.. أعترف بأن لحظات الفرح قليلة، ولكن موقفي تجاه الحياة هو دائماً التفاؤل وحب المغامرة.. هذا ليس تنظيراً، ولكن نظلم الحياة كثيراً إذا نظرنا لها من منظور متشائم، فهناك من يولد ويعيش في نفس اللحظة التي يموت فيها إنسان، الحياة لن تقف أمام معاناتنا كفلسطينيين فنحن عشرة ملايين وسط مليارات الناس، سأقبل دعوتك لابتسامة يا زياد.