تاريخ النشر: 24 كانون الأول 2024

إسرائيل تواصل حربها على "اللد"!

كتب يوسف الشايب:

 

طلب وزير الثقافة والسياحة في حكومة الاحتلال الإسرائيلي، المتطرف ميكي زوهر، من وزير المالية الإسرائيلي المتطرف أيضاً سموتريتش، دراسة وقف مخصصات دار السينما "سينماتك تل أبيب"، بسبب عرضها، مؤخراً، فيلم "اللد" للفلسطيني رامي يونس والأميركية اليهودية سارة إيما فريدلاند.
ويتضمن الفيلم مقاطع وثائقية عن تاريخ الفلسطينيين في مدينة اللد واحتلالها في العام 1948، ومقاطع رسوم متحركة، تندرج في إطار الخيال العلمي، عن مستقبلها في حال لم تكن تعرضت للاحتلال من أساسه، كما يدعو الفيلم إلى إيقاظ الهوية الفلسطينية لدى فلسطينيي اللد بشكل خاص، والمدن الفلسطينية المحتلة في العام 1948، عامة.
وفي 24 تشرين الأول 2024، نشرت صحيفة "هآرتس" بالإنكليزية، أنه كان من المقرر أن يعرض الفيلم الوثائقي "اللد" في مسرح السرايا العربي بمدينة يافا، في اليوم نفسه، لكن سرعان ما تحركت الشرطة الإسرائيلية بسرعة، تبعاً لمطالبات الناشط اليميني المتطرف شاي غليك، الذي عمل سنوات، في بحث وتصنيف وملاحقة الأنشطة الثقافية، التي تفوح منها، في رأيه رائحة يسارية.
وأبلغت الشرطة، مدير مسرح السرايا في يافا محمود أبو عريشة، بمنع المسرح من عرض فيلم "اللد"، مشيرة إلى أن عرض الفيلم ألغي لعدم تقديم طلب للحصول على تصريح لعرضه، كما استدعي أبو عريشة إلى مركز الشرطة الإسرائيلية في يافا، وأبلغ أنه من الآن فصاعداً، يجب أن تتم الموافقة على كل فيلم يعرض في المسرح.
إنها "طقوس"، حسب تعبير "هآرتس"، بحيث يرسل المخبر رسالة تحذير، يدعي فيها أن الفيلم مليء بالأكاذيب ويضر بإسرائيل، عادة دون مشاهدته، فينضم ساسة من اليمين المتطرف في إسرائيل إلى غليك، ويقدمون له الدعم، كما العديد من وسائل الإعلام اليمينية، وهنا "يبدأ التسونامي".
هذه المرة، انضم وزير الثقافة والرياضة في الحكومة الإسرائيلية المتطرفة ميكي زوهر إلى غليك، وطلب من الشرطة منع العرض، بحجة واهية مفادها أن "الفيلم قد يؤدي إلى اضطرابات".
الشرطة، التي تحاول استرضاء الوزير المسؤول عنها، وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، تقفز عند كل حالة من هذا القبيل، كما لو كانت حالة طوارئ تتعلق بالأمن القومي.
وفي حالة "اللد"، فإن "الخطر" الجسيم والمباشر ليس سوى فيلم يجرؤ على سرد الرواية الفلسطينية لمدينة اللد وتاريخها، بل لكون أحد مخرجي ومؤلفي الفيلم هو رامي يونس، "عربي من اللد"، وما يجعل الفيلم يمثل تهديداً قوياً هو أن أحد منتجيه هو الموسيقي البريطاني الشهير روجر ووترز، الذي وُصف لفترة طويلة بأنه كاره لإسرائيل، ومعادٍ للسامية.
وتحت عنوان "أود أن يفهم الإسرائيليون أن الصهيونية عنصرية"، كتبت نيريت أنديرمان في صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية، وتحديداً يوم 23 تشرين الثاني الماضي، مقالاً، تضمن حواريّة مع يونس، أشارت فيه إلى أن فيلم "اللد"، يصوّر كيف ستكون الحياة لو لم تكن هناك نكبة، وإلى أن "الفيلم محظور في إسرائيل، لكنه يجتذب جماهير في الولايات المتحدة".

 

الرادار اليميني
وكشفت أنديرمان عن أنه في العاشر من تشرين الثاني لهذا العام، أي قبل أسبوعين على عرض الفيلم الفلسطيني "اللد" في مسرح السرايا العربي في يافا، علم الناشط اليميني شاي غليك بالأمر، وأطلق رسالة عاجلة إلى وزير الثقافة والرياضة، من بين جهات أخرى، فهرع زوهر إلى التحرك، مُدعيّاً أن السماح بهذا العرض، من شأنه أن "يعرض أمن إسرائيل للخطر"، وطلب من الشرطة الإسرائيلية منع العرض، وهنا سارع الضباط إلى الانصياع، واستدعوا مدير المسرح، مُقدّمين له "خطاباً تحذيرياً"، وحظروا الحدث، لأنه "لم يتم تقديم أي طلب للحصول على تصريح لعرض الفيلم إلى مجلس مراجعة الأفلام في البلاد".
وكتب زوهر في ذلك اليوم: إنه عار على الفيلم التحريضي الكاذب "اللد"، الذي كتبه وأنتجه نشطاء يدعمون المقاطعة ضد إسرائيل، أن يعرض في أراضي الدولة.. الفيلم، يقدم صورة وهمية وكاذبة، يفترض بموجبها أن جنود جيش الدفاع الإسرائيلي ارتكبوا مجزرة وحشية، ويصف طرد الفلسطينيين من "اللد" مُقدماً صورة كاذبة بأن مدينة "اللد" كان من المفترض أن يتم تدميرها بسبب دولة إسرائيل.. هذا تشهير بإسرائيل وجنود جيش الدفاع الإسرائيلي لا يمكن السماح به.
وبعد أيام قليلة، أضاف الوزير، في مقابلة مع القناة 13 الإسرائيلية الإخبارية، إن "اللد" ليس فيلماً بل "كذبة لا أساس لها من الصحة، تتميز باختراعات لا علاقة لها بالواقع، ضد الشعب اليهودي، وضد دولة إسرائيل".
في حين غرّد وزير الأمن القومي الإسرائيلي المتطرف إيتمار بن غفير، عبر منصة "إكس": "أسمع عواء اليسار بسبب إلغاء عرض فيلم (اللد) في مسرح يافا.. عليهم أن يفهموا أن القانون هو القانون".
تم إلغاء عرض فيلم "اللد"، الذي يركز على احتلال العصابات الصهيونية للمدينة العربية التي كانت مزدهرة، وحثت 14 منظمة تمثل الفنانين المبدعين، التي صدمتها السهولة غير المقبولة التي تم بها حظر الحدث، المدعي العام الإسرائيلي غالي باهاراف ميارا على التوضيح لكل من وزير الثقافة الإسرائيلي، والشرطة الإسرائيلية أن هذه ليست وظيفتهم، أي تفسير المحتوى الثقافي أو منع عرضه للعامة، بحيث أعلنت هذه المجموعات أن "مهمة الشرطة الإسرائيلية حماية حرية التعبير، وليس حماية أولئك الذين يسعون إلى الإضرار بها وإبطالها".
بحلول ذلك الوقت، كان رامي يونس، مخرج الفيلم بالشراكة مع الأميركية اليهودية سارة إيما فريدلاند، استقل طائرة متجهة إلى الولايات المتحدة، حيث بدأ جولة العروض الدولية لـ"اللد"، ومنذ ذلك الحين وهو يتنقل بين المدن في الولايات المتحدة، ويتحدث مع الجماهير ويصف كيف تحولت الشرطة الإسرائيلية، في الواقع، إلى رقيب، مُتحدثاً عن كيف أصبح هو نفسه كبش فداء يتعرض للاضطهاد بانتظام من قبل دعاة اليمين في إسرائيل.
وصرح متحدث باسم الشرطة الإسرائيلية، لـ"هآرتس"، رداً على ذلك: "خلافا لما يُزعم هنا.. في أعقاب شكوى قدمت إلى الشرطة من قبل مجلس مراجعة الأفلام يؤكد أن الفيلم لم يحصل على تصريح اللجنة كما هو منصوص عليه تبعاً للقانون، ووفقاً للوائح عرض الأفلام، وصل صاحب مكان العرض إلى مركز الشرطة وتم التوضيح له أنه بموجب القانون، يجب عليه ترتيب العرض العام للفيلم مع اللجنة.. أي ادعاءات أخرى غير صحيحة وتضلل الجمهور"، فيما رفضت وزارة الثقافة الإسرائيلية التعليق.
وفي 11 كانون الأول 2024، نشرت الصحيفة ذاتها، لذات الكاتبة، وتحت عنوان "وزراء إسرائيليون يهددون ميزانية سينما تل أبيب بسبب استضافة مهرجان سينمائي يساري"، إن وزير الثقافة والرياضة الإسرائيلي ميكي زوهر (الليكود) طلب من وزير المالية بتسلئيل سموتريتش (الصهيونية الدينية)، دراسة إمكانية حرمان سينماتيك تل أبيب من الأموال، في أعقاب مهرجان أفلام التضامن لحقوق الإنسان، عرض فيلم "اللد"، الذي وصفه بأنه "يتخذ موقفاً ضد دولة إسرائيل، ويشوه سمعة جنود جيش الدفاع الإسرائيلي"، لافتاً إلى أن "عرض مثل هذه الأفلام في حدث تدعمه دولة إسرائيل إشكالية كبيرة، وانزياح عن حرية التعبير المشروعة والمعقولة، مطالباً سموتريتش بتحديد إذا ما كان هناك انتهاك لـ"قانون النكبة"، بعرض كهذا، وهو قانون يمنح وزير المالية الإسرائيلي سلطة فرض غرامات قاسية على المنظمات التي تمولها الحكومة، و"ترفض وجود إسرائيل كدولة يهودية".

 

تحريض مُنتقى
وأشار يونس في حديث مع "أيام الثقافة": توجهنا لعرض الفيلم في "سينماتك تل أبيب" باعتباره من بين الجهات الثقافية الأكثر تحصيناً في إسرائيل، وذلك بعد منع عرضه سابقاً في مسرح السرايا العربي في يافا، وهذا لم يكن مُتوقعاً، ففيلم "اللد" لمخرج فلسطيني ومخرجة أميركية يهودية ومن إنتاج فلسطيني أميركي بريطاني، فمنتجه الموسيقي البريطاني روجر ووترز، والمنتجة الفلسطينية البريطانية سوسن أصفري، بدعم من كلية اللاهوت في جامعة هارفارد الأميركية ومجلس الفنون في نيويورك وداعمين مستقلين، وعمره لا يتجاوز عاماً ونصف العالم، جعل الحكومة الإسرائيلية بتركيبتها الحالية تحارب الثقافة الإسرائيلية.
وحول تركيز التحريض الإسرائيلي على كل من يونس ووترز دون فريدلاند، كما يلاحظ، أكد يونس لـ"أيام الثقافة"، أن ذلك يعود لعدّة أسباب من بينها أنني أوضع كما ووترز، كذباً وافتراءً وتشهيراً، في خانة "معاداة السامية"، مع أنني معادٍ للاحتلال وجرائمه، ولما يحدث في قطاع غزة، وأيضاً لكونهم لا يرغبون لجماهيرهم من اليهود الإسرائيليين إدراك أن وراء الفيلم ثمة يهودا آخرين في العالم يناهضون الصهيونية، وينتصرون لحقائق الأمور، خاصة أن الإسرائيليين في زمن اليمين المتطرف باتوا يصنفون "كل من هو غير صهيوني باعتباره خائناً".
وكان العرض العالمي الأول للفيلم في مهرجان عمّان السينمائي الدولي، صيف 2023، حيث فاز بجائزتي أفضل فيلم وثائقي والاتحاد الدولي للنقاد السينمائيين (الفيبريسي)، وبعدها ساهمت أحداث "السابع من أكتوبر، وما تبعها من عدوان على قطاع غزة في تأجيل الكثير من عروض الفيلم، قبل تنظيم جولة ناجحة في جامعات ودور عرض مستقلة بالولايات المتحدة".
وأكد يونس لـ"أيام الثقافة" أن الفيلم فكرة سارة إيما فريدلاند، متأثرة بمقال قرأته في "نيويوركر"، العام 2015، حول "مجزرة اللد"، وتحديداً "مجزرة جامع دهمش"، وقررت جمع العديد من المعلومات حول الأمر، قبل أن تقوم بزيارة إلى "اللد"، أي موقع الحدث، وقبل الزيارة تم ترتيب تواصل بيننا عبر صديقة مشتركة، في وقت كنت فيه قد درست ومارست كتابة السيناريو والنصوص السينمائية، وعملت في الإعلام، ولم أحترف العمل السينمائي خاصة في مجال الإخراج، لكن لقاءنا في اللد ساهم في تشكيل حالة من التقارب جعلتنا نقرر الخروج بالفيلم سوياً، وفي العام 2016 بدأنا في التصوير، وبعدها بعامين قبل مشروع فيلمنا في "جناح فلسطين الأول في مهرجان كان السينمائي" (Palestine Pavilion)، وخلال محاولاتنا هناك لجمع مزيد من التمويل، أدركت وسارة أننا نسير في طريق لطالما سار عليها كثيرون قبلنا، بمعنى أننا نقدم فيلماً وثائقياً تقليدياً حول النكبة ومجازرها، فاتجهنا نحو تقديم ما هو جديد وبعيد عن كلاسيكية مفاهيمية الفيلم الوثائقي، وبعد انعزال في منزل بأحد جبال ولاية "ماساتشوستس"، لقرابة الأسبوعين، خرجنا بالتكوين الجديد للفيلم، وعمدنا إلى تقديم سرد مغاير ومستحدث في الأفلام الوثائقية عبر توظيف عناصر "الخيال العلمي"، وتوافقنا أن النجاح سيكون إنجازاً عظيماً، والفشل محاولة لن تكون عابرة، ولحسن الحظ أننا نجحنا في ذلك، وبحيث تحولت "اللد" أيضاً إلى شخصية من شخصيات الفيلم الذي أنجز بشكله الكامل في العام 2023، وكان عرضه الأول في الأردن.


منع غير مُستهجن!
ويمكن وصف "اللد" باعتباره عملاً هجيناً، يجمع ما بين التوثيق والخيال والفنتازيا، في روايته مدينة اللد، عن طريق مزيج عجيب ومذهل من اللقطات الأرشيفية والمقابلات التاريخية والحديثة، إلى جانب الرسوم المتحركة التي تخلق حالة بديلة عن الواقع.
من جهتها، لم ترَ مخرجة الفيلم الشريكة سارة فريدلاند في حظر الفيلم أمراً مُستهجناً، بالقول: "إلغاء العرض بالنسبة لي جزء من اتجاه أكثر انتشاراً، في حركة عالمية نحو الفاشية.. ليس من المستغرب حقاً أن ترغب وزارة الثقافة في حكومة الليكود في منع عرض فيلم كهذا في الوقت الحالي"، مضيفة: "بمعنى ما، انتظرنا حدوث ذلك، وبعد أن حدث أصبح واضحاً لنا أننا بحاجة إلى نشر هذه القصة، وأنه من المهم أن يعرف الناس أن الفيلم حول العنف المتأصل في تأسيس دولة إسرائيل، أي العنف الذي كان جزءاً لا يتجزأ من عملية تأسيسها، والذي يستمر حتى اليوم، محظور المشاهدة الآن.. خاصة الآن، حيث تستمر النكبة أمام أعيننا في شكل الإبادة الجماعية في غزة.. حظر هذا الفيلم يروي قصة أوسع، حول نوع التاريخ الذي ترغب دولة إسرائيل في السماح لمواطنيها برؤيته".