
كتبت بديعة زيدان:
في ثلاث وثمانين قصة قصيرة، ذهب القاص والروائي عمر حمّش في مجموعته الأحدث "تغريدة النورس الأخيرة"، إلى توثيق يوميات حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة، التي يعيشها ويعايشها، منذ ما يقارب الخمسة عشر شهراً، بلغة شاعرية، وبسردية تسجيلية، وظف فيها حوّاسه الخمس، بل والسادسة المرتبطة بالقدرة على التقاط الإشارات غير المرئية المنبعثة من أجساد الكائنات الحية، أو اللاحية في حالته.
ويذهب حمّش في قصص "تغريدة النورس الأخيرة"، إلى توظيف حاسّته السابعة أيضاً، وهي عادة ما ترتبط بالإحساس بالزمن، وتتمحور حول وعي الأحاسيس، وخاصة الألم والضغط، جسدياً ونفسياً، وتأتي متوائمة، هنا، مع أهوال حرب الإبادة، حيث يتمدد الوقت ويتجمّد لاستيعاب ما لا يمكن استيعابه، وهو ما ينعكس في نصوص المجموعة الصادرة عن وزارة الثقافة الفلسطينية، مؤخراً، ضمن مشروع سلسلة "إصدارات من غزة".
في القصة الأولى، يتحدث السارد العليم عمّن "يحرّضه" على الصمود، قبل أن يخرج في اليوم التالي من خيمته، ويصطدم بالنازحين الذين حطوا على الشاطئ كالجراد، وقبل أن تضرب الأمواج الصاخبة الجموع، فتنبح فوقه "كلاب مجرورة خائفة"، وتنهض "حمير راجفة"، حتى حسب البحر يصيح لاعناً "هذه الحرب التي قلبته رأساً على عقب"، وتتدحرج "البهائم، والناس، والفئران"، ومن ثم تفجعه أم صاحبه المهرولة من خيمتها بأن صاحبه مات مُنفجراً.
وفي القصة التالية يرى "الملائكة" يخرجون من البحر أو يسقطون كما اللهب، "يتطوّون مع الموج طي الأقمشة"، في وقت كانت فيه "كل ثكلى" ترقب "الليل، وتتماهى مع الهدير"، بعد أن رأت كل واحدة منهن "ملاكاً كالبصيص، وظنته قذيفة، أو سفينة آتية"، ورأين "الملائكة تبتسم، طيوراً كانوا أو زهوراً"، لترتوي كل ثكلى في الخيام.
ويبقى البحر حاضراً كما الخيام مع تتالي القصص وتواليها، فالأمواج تعيد "أولاد أم خليل"، وسارق المخدة من سارقيها ليس بعيداً في خيمته الفارغة، بينما كان حمّش أو من تلبسه سرديّاً يبحث عن تسجيل قديم في هاتفه النقال، كان يحفظه قبل "هذه الحرب اللعينة"، أو "أقذر الحروب"، التي "طالت كثيراً"، فقضى من معه متتابعين، "رحلوا، لكنهم ظلوا في عينيه"، فمحمد "تناثر، وجمعوه عن التراب، ومن على حائطٍ بقّعته شمسٌ بدوار نور، وغيث داسته غابة لاهثة، تجري خلف مظلة مساعدةٍ ساقطة، وفاطمة شهقت فوق غيث، ولم تقم، عليه زفرت النَفَس الأخير.. وأما نوال، فتسلى بجبهتها قنّاص، وثقبها عبر منظاره العالي البعيد".
وبعين ثالثة، نقلب القصة تلو الأخرى، مُرافقين حمّش في رحلة إبصاره وبصيرته، عبر محيطه المحدود واللامحدود في آن، لنشاركه مساعيه في محاولاته اقتحام عقول من حوله، وفي منحنا مساحة اقتحام ما بداخل عقله تأويلاً، هو الذي يَظهر ويُظهر، كأنه الناجي الوحيد من الحرب، مهرولاً في "كل مرّة خلف واحدٍ إلى مدفن جديد"، يمارس الضحك تارة، ولا يجد "همّة كافية" ليبصق تارة أخرى، كملكٍ هدمت الحرب عرشه، غير مدركٍ كيف هاجمت الأصنام المدينة، وكيف لبس "المفكّر" بذلته الأولى، وأخذ يحدثه عن مسائل عدة من "تحرير البلاد إلى مشكلة القمامة" في الحي، مُهرولاً نحو عبد الحليم حافظ، الذي وصل بلحمه، وعظمه، وعينيه المحدقتين، وغرّته المتطايرة، وبصوته الصدّاح بأن "خلي السلاح صاحي"، بينما يعرفه المارة ولا يأبهون به.
وثمّة نوستالجيا تقطر من بين سرديّات القصص وشخوصها، حنينٌ إلى العاديّ الذي لم يعد عاديّاً، إن لم يبت مستحيلاً، كـ"نفس نارجيلة"، و"الزلابيا"، و"الحنتوت"، و"قهقهة" مفقودة، وحسناء الحارة وعذرائها، وجلّ أيامها، و"وليمة"، و"طحين"، و"استرخاء" مأمول، قبل أن تدهمه "شيخوخة"، يحط على إثرها في سرير ببيت للمسنين، برفقة صوت أنثوي يجعله يطل عجوزاً بملابسه الداخلية مكتشفاً السطح المقفر من أي أثر لصوت ناعم، رغم أن "أم علي" كانت لا تبرح الجدران، وقبل أن تدهمه أيضاً رؤية الفأر الملتصق أعلى الحائط، وحمامة بلون الفأر، فكائن بليد مثله، يدسه في إبطه، مُطلقاً "تغريدة النورس الأخيرة".