تاريخ النشر: 23 كانون الأول 2024

"مثلث شذى".. سردية جسدية لفلسطينية عادية تقاوم الانكسارات!

كتب يوسف الشايب:


قدّمت الفنانة الفلسطينية شذى جرار نفسها بشكل مختلف، ومُغاير، حين أبدعت فيما يمكن وصفه بصفحات شخصية من سيرتها كشابة، عبر العرض الأدائي "مثلث شذى"، واحتضنت خيمة مدرسة سيرك فلسطين ببلدة بيرزيت، عرضه الأول، مساء أول من أمس.
وجاء العرض، نتاج برنامج منح الإقامات الفنيّة "سوا سوا"، بإدارة وتمويل المعهد الفرنسي في القدس، وبهدف دعم الفنانين الفلسطينيين ذوي الملفات الشخصية المتنوعة من حيث التخصصات والأجيال.
وبالمزج بين أكثر من نمط أدائي فنّي، قدمت جرار كتابة وإخراجاً وتمثيلاً، عرضاً قد يبدو في طرحه بسيطاً، يعالج مواضيع قد يراها البعض هامشية، لكنه لجهة المضمون، وفي ما وراء الحكايات الشخصية لشذى أو من تلبست شخصياتهن، ينزاح إلى زوايا محورية في تكوين الشخصية النسوية خاصة، والفلسطينية عامة، في ظل احتلال شرس يعبّر عن توحشه بجرائم يومية، وعادات وتقاليد متوارثة ليس من السهل تجاوزها، علاوة على الجوانب النفسية الجوانية.
وبين أداء مسرحي، وآخر استعراضي أكروباتي، وشيء من الرقص المعاصر، أو فن الحكواتي، أو الحكواتية في هذه الحالة، لا يبدو "مثلث شذى" كـ"مثلث برمودا" باعتباره مثلثاً للشيطان، وإن كان ثمة حالات اختفاء مفترضة، ولو في المرويّات المتوارثة، فهنا تختفي شذى الطفلة بكل أحلامها، ومن ثمّ شذى المُراهقة، فشذى الشابة الطموحة، تحت وطأة محاولات التحرر الذاتي، والمجتمعي، وهو ما يتقاطع مع كثيرات في قارات العالم المختلفة، أو التحرر الكلي من وطأة احتلال جاثم على صدرها.
تتسلق الأحمر تارة، وتلهو، أو تنقلب بوعي جسدي، أو دونه نفسياً، رأساً على عقب، ومن ثم تتسلق الأخضر نحو السماء المحدودة بحدود الخيمة هنا، مع ما تحمله دلالات اللونين، ودلالات الحكايات والأفكار والرؤى الفلسفية التي ترافق عملية تسلق هذه التلة القماشية أو تلك، ما يجعل من العمل غير عابر، لاسيما إذا ما ترافق في ذهن المتلقي بخفة ظل غير مصطنعة جعلتنا نضحك وأحياناً نقهقه.
في العرض الذي اضطلع فيه الفنان معتصم أبو الحسن بمهمة المتابعة الفنية في البحث والإعداد، انتقدت شذى جرار، ودون تكلف، أو إقحامات، وبسرد سلس لجهة المقال لسانيّاً وجسدياً، وبأداء منسجم تماماً مع المضمون، جوانب عدّة مرتبطة بآليات التعليم في المدارس، وبالقمع المجتمعي، والتحرّش، وحالة التيه الشبابي.
وتطرق العمل أيضاً إلى التحوّلات جراء اقتحام الاحتلال بسياساته يوميّاتنا، لاسيما عبر جدار الفصل العنصري، والحواجز العسكرية، وغيرها، وانعكاساتها حيث أحلام الجميع محاصرة بسور، وسياج، و"معّاطات"، غير مغفلة الإشارة، ولو بشكل غير مباشر، إلى حالات الفقدان المتواصلة للشباب الفلسطيني، وما تنتجه من وحشة وربما توحش، وهو ما عبرت عنه بأكلها لصديقتها السمكة.
وتحت الشعار التبريري، أو الإنساني المحق، حسب زاوية الرؤية، ومفاده أن "كل المآسي محتملة ما دام هناك احتياج للخبز"، قدمت شذى جرار في مونودراما "مثلث شذى"، عملاً عكس قدراتٍ إبداعية تستحق التوقف أمامها، بل التصفيق لها في نهاية المطاف، لكونه اتكأ على السلاسة العميقة، دون شعارات كبيرة لا طائل منها، ودون تغافل عن القضية، مؤكدة على الانتصار للإنسان أولاً، وعلى كون أن لا فائدة لأوطان بغياب أصحابها، فرحلنا على مدار قرابة النصف ساعة، رفقتها، وهي تحاول لاهثة فهم ذاتها، على وقع صخب لا ينتهي، تضيع فيه، ويضيع فيها، وكأنها تسير على خطى مقولة الروائي الفرنسي إيميل زولا بأن "إذا سألتني ما الذي أتيت لأقوم به في هذا العالم، أنا الفنان، سأجيبك بأنني هنا لأعيش حياة صاخبة".
وفي وقت نتماهي فيه مع شذى في مثلثها، وقبل أن تختفي، بفعل شيطاني أو مغناطيسية زائدة، فإن العرض الذي كان تقشف عناصر السينوغرافيا فيه متوائماً وطبيعة تكوينه، ومن بينها تصميم وتنفيذ الإضاءة لعصام رشماوي، كان بمثابة سردية جسدية فيها شيء من السيريّة لفتاة عاديّة تعاني كغيرها من فتيات العالم، وكغيرها من الفلسطينيين جملة انكسارات، وعلى أكثر من مستوى، لتشكل أدائيّة "مثلث شذى" تجسيداً لفلسفة فان غوخ باعتبار"الفن وُجد لمواساة أولئك الذين كسرتهم الحياة"، وإن بقيت تقاوم هي، كما الفلسطينيون، بما استطاعوا، انكساراتهم.