
كتب يوسف الشايب:
"صراعنا اليوم هو صراعٌ على الأرض، ولكن هو أيضاً صراع على الرواية، فنحن في العام 1948 لم نخسر أرضنا فحسب، بل عشنا ولا نزال حرباً مستعرة على روايتنا، حيث إن إسرائيل عبر العقود الماضية عمدت إلى تسويق روايتها عبر العالم، وفي الوقت الذي تتخذ فيه الحرب علينا، اليوم، شكل التطهير العرقي والتمييز العنصري في قطاع غزة، فإنها في الضفة الغربية تتخذ شكل الاستيطان الاستعماري الإحلالي وسرقة الأرض والموارد، مع استمرار سرقة الرواية بما فيها هويتنا الدينية".
بهذه العبارات دشّن القس البروفسور متري الراهب، مناقشة وتوقيع كتابه "تفكيك الكولونيالية في فلسطين: الأرض والشعب والكتاب المقدس" في المسرح البلدي بدار بلدية رام الله، مؤخراً، بإدارة الشاعر والأكاديمي إيهاب بسيسو.
وشدد الراهب في حديثه على أنه سعى عبر الكتاب، وعبر زيارته الأخيرة إلى الفاتيكان، ووضع كوفية أسفل منحوتة تجسده طفلاً، إلى التأكيد على أن "على العالم أن يدرك أن المسيح ابن فلسطين، فالمسيحية لم تخرج من الفاتيكان مع الاحترام لأتباع الطائفة الكاثوليكية، ولم تخرج من ألمانيا مع الاحترام لأتباع الطائفة اللوثرية، ولم تخرج من جنيف مع الاحترام للمُصلحين، ولم تخرج من أثينا مع الاحترام لأتباع الطائفة الأرثوذوكسية، وإنما المسيحية هي بالأساس نبتة فلسطينية"، مشدداً على أن كتابه هذا يشدد على عدم إمكانية أستاذ لاهوت في أي مكان في العالم فهم الكتاب المقدس، ويقصد العهد الجديد، أكثر من ابن فلسطين، باعتبار أن العهد الجديد مرتبط بفلسطين"، حتى وإن "سعت إسرائيل إلى خطف حتى هذه الرواية منا"، فـ"تفكيك الكولونيالية لفلسطين يتناول الكتاب المقدس برؤية فلسطينية، برؤية ابن هذه الأرض وصاحبها الأصلاني، أي تقديم قراءة جديدة للكتاب المقدس بعيون فلسطينية، وليس بعيون استعمارية صهيونية".
وكشف الراهب أن الفكرة في البداية كانت تتمحور حول الخروج بكتاب حول القدس بالاشتراك مع بروفسور أميركي من مناصري القضية الفلسطينية، ولكن خلال العمل على محتوى الكتاب لاحظ أن شريكه الأميركي "مهووس بماهية فلسطين قبل ثلاثة آلاف عام"، في حين كان "ما يهمني واقع القدس اليوم"، وهو ما جعلني أدرك أن الغرب، حتى المؤيدين للقضية الفلسطينية منهم، يتعاطون في قراءتهم التاريخ والكتاب المقدس مع ما كان، و"هذا يقودهم، ولو دون قصد لربط فلسطين، بما فيها القدس، باليهود، وربط يهود العهد القديم بيهود اليوم"، لذا كان لا بد من تفكيك هذه الرواية الاستعمارية، والتصدي لها، لاسيما أن وزير الدفاع الأميركي الذي اختاره الرئيس المنتخب دونالد ترامب يتحدث صراحة عن "معجزة ستصب لجهة بناء الهيكل الثالث في مكان الأقصى وقبة الصخرة"، وهذه هي "القدس المتخيلة التي يسعون لتحويلها إلى واقع، في إطار مشروع سياسي يوجهه فكر متطرف، وما ينسحب على القدس ينسحب على الضفة الغربية وكل فلسطين، بل وما هو أبعد من فلسطين".
وتحدث الراهب في نقاش كتابه عن حرب المصطلحات، ومن بينها استبدال "فلسطين" بـ"إسرائيل"، على سبيل المثال لا الحصر، وهو اختراع المستعمر لجهة محو تاريخ ورواية وحضور أصحاب الحق الأصلانيين، كما حدث في أميركا، وكندا، وأستراليا، وإفريقيا، وغيرها، وفي فلسطين لم يتم استبدال اسم البلاد بكليتها فحسب، بل تم استبدال أسماء القرى والبلدات الفلسطينية التي احتلتها العصابات الصهيونية في العام 1948.
وتطرق الراهب أيضاً في النقاش كما في الكتاب إلى تسييس مصطلح "شعب الله المختار"، وتأويلاته، بحيث تم ربطه بعرق ودين بعينه، في حين أن الكتاب يظهر أن مفهوم "شعب الله المختار" مرتبط بـ"مفهوم أصحاب هذه الأرض.. خرجت مقولة شعب الله المختار من قبل أصحاب هذه الأرض الذين عاشوا الاحتلالات المختلفة، وواجهوا كل جرائم هذه الاحتلالات ومقولتها بالتأكيد على أن الله اختار الفلسطينيين ليكونوا أصحاب هذه الأرض، وبالتالي فإن لهم حياة عليها، ومستقبلاً أيضاً، لذا عليهم الصمود عليها متسلحين بالأمل"، ومن هنا "فقد تم تحوير فكرة شعب الله المختار في الكتاب المقدس، وتحويلها من فكرة ترتبط بشعب مُستعبَد إلى فكرة استعمارية إحلالية القصد منها قتل الشعوب الأصلية".
وأكد صاحب كتاب تفكيك الكولونيالية في فلسطين: الأرض والشعب والكتاب المقدس"، أننا، وعلى مدار "قرون عديدة، نجتر اللاهوت المستورد، باعتبار أن الغرب يمتلك المعرفة الكاملة.. لكن المهم هو، ورغم تقدمهم لأسباب عدّة من بينها الاستعمار، إعادة كتابة التاريخ، وقراءة الكتاب المقدس بعيوننا، وبناء على خبرتنا، باعتبار أن الكتاب المقدس خرج من هذه الأرض، والمسيح، الذي ولد على هذه الأرض، عاش تحت احتلال روماني، وعليه لا يمكن فهم العهد الجديد إذا ما انتزعناه عن سياقه الأصلي فيما يتعلق بالاحتلال الروماني، فأقوال المسيح لا يمكن فهمها إذا لم أدرك أنه كان يعيش تحت الاحتلال، وهو ما لم يأخذه الغرب بعين الاعتبار"، متحدثاً عن "اللاهوت السياقي".
ومما خلص إليه الراهب أن الكتاب المقدس، "هو جزء من أدب المقاومة لشعب هذه الأرض ضد هذه الاحتلالات"، وأنه "جزء من رواية أصحاب هذه الأرض".