تاريخ النشر: 10 كانون الأول 2024

"الرّوع" لزهران القاسمي.. شيء عن فزّاعة صنّاع الوهم!

كتبت بديعة زيدان:

 

"الرّوع" في سلطنة عُمان، هي ذاتها "الفزّاعة" في فسطين وبلاد الشام، و"خيال المآتة" في مصر، وغيرها من الأسماء في الأقطار العربية المتعددة، وهي دمية عادة ما تكون على شكل إنسان، وغالباً ما يصنعها الفلاح من القش المخبأ في ثياب، لحماية المحاصيل من الطيور والحيوانات عامة، بإخافتها.
و"الرّوع" هو عنوان الرواية الأحدث للروائي العُماني زهران القاسمي، والصادرة، حديثا، عن منشورات "ميسكلياني"، وتبدو في ظاهرها بسيطة قد يخالها غير القارئ لما وراء النص، حكاية مسلية عن "محجان" فارع الطول، الذي يلتفت بعد طول تنمّر وتهميش منذ طفولته إلى مزرعته التي ورثها عن والده، وباتت تدرّ عليه الخير الوفير، بفعل "الرّوع" الذي لم يكن كغيره من فزّاعات حقول قريته، لكنها في حقيقة الأمر رواية تفتح باب التأويل على مصراعيه.
و"الرّوع" لغة يعني الخوف والهلع وأحياناً الحرب، كما الفزع، التي منها جاء توصيف "الفزّاعة"، وهي في حالة "محجان"، كما الكثير من شاكلته ممن صرعتهم سطحية التفكير حد السذاجة، كمن صنع صنماً يعبده، لدرجة تقديم القرابين له كحلي زوجته، واختراع طقوسه الخاصة كي لا يتسلل الغضب إلى فزّاعته، فيُصلي ويطوف حولها تارة، بعد أن يتطهر، ويذبح لها ديكاً، ويغني لها تارات أخرى، بل إنه صلب نفسه على خشبها المصنوع من شجر "الغاف" النادر، ذات مرّة.
وهنا يقودنا القاسمي إلى "صناعة الوهم"، التي تقوم عليها فكرة الفزّاعة بالأساس، أو "الرّوع"، وهي تلك الاستراتيجية التي تعد من أبرز وسائل الحكّام والساسة وأحياناً رجال الدين، وخاصة من ترافقهم الدكتاتورية، أو الفشل في تحقيق أي منجزات لشعوبهم، لا سيما أن تسميات "الفزّاعة" في جغرافيّات الضاد، عادة ما ترافق الفاشلين أو غير ذوي التأثير، في اللهجات الدارجة.
وعندما يتواطأ الكثير من دعاة النخبوية والثقافة مع السياسيين في تنميط وعي الجمهور بأوهام من صنيعتهم، تكون مهمة العمل على ترويج الأوهام أكثر سهولة، ما يجعل، محاولة التصدي لتلك الأوهام، مع مرور الوقت، مهمّة شاقّة وصعبة، بل ومعركة طويلة، لا سيما في مجتمعٍ تهيمن عليه ثقافة تخلط الشعبوية بالدين تبعاً لفهمه الخاص له، ويغيب عنه الوعي، ويتملكه الخوف والرعب اللذان ربّاهما صنّاع الوهم أنفسهم، كما يربّون "الرّوع"، أي الخوف والرعب أيضاً، لذا تراهم يهتمون بحشد الأقوياء جسدياً والفارغين فكرياً من حولهم، وهو ما فعله "محجان" أيضاً.
"جسد الرّوع في نظره أهم بكثير من رأسها، لا بد أن تبقى ثابتة في مكانها، الثبات في المكان شيء مخيف على الدوام، ثباتٌ يتحدى الريح وتلك العواصف العابرة المُصرّة على اقتلاع كلّ ما تقابله في طريقها"، وذلك لقناعته أن "روعه لن تكون طيّعة لأحد سواه"، لذا "جعل لها رأساً من القش، كوّر الرأس، لفّ الأعواد على شكل جُبّة، ثم حشاها تبناً"، وهذا ما يفعله صنّاع الوهم من الساسة وغيرهم، أي أن يحشوا رؤوس أتباعهم، أو من يريدون إخضاعهم "تبناً".
والتفكير بإدامة زخم الأوهام هو ما يشغل بال الحكام وحاشيتهم، عادة، وهو ما كان مع الفاشل الذي بات صاحب المزرعة التي تدرّ الخير الوفير في "الرّوع" الرواية، أي "محجان"، الذي مع الوقت، بات، ولو دون تخطيط، على عكس الكثير من صنّاع الوهم عن وعي ودراية، يروّج للفزّاعة التي تستهدف المخلوقات بالرعب، بمن فيهم البشر، الذين هم هدف الطغاة أيضاً.
وأمام "روع محجان"، هناك "من وقف حائراً لسبب ما، زُرع الوجل في صدره، فبدأ يتنفس بصعوبة، كمن أصابته نوبة من الكرب، وثمّة من علقت عينا الرّوع في مخيلته، وخرجت معه حتى وصلت إلى أحلامه، أما بعض الأطفال الذين استطاعوا الوصول إلى هناك، فلم يعرف أحدهم ماذا أصابهم تلك الليلة، إذ سرت الحمى في أجسادهم، وطغى الهذيان على مناماتهم".
أمَر "محجان"، سائق حافلة مدرسة القرية، "الرّوع" بحراسة مزرعته، وعدّد لها قائمة الأعداء من حيوانات، وبينهم الغزلان، دون أن يفكر إن كان ثمة غزلان في المنطقة من عدمه، وكذلك اللصوص.. "ألحّ على اللصوص، كرّرها ثلاثاً.. والحسّاد الذين لا همّ لهم إلا إفساد الزروع بعيونهم وألسنتهم المسمومة"، فقد كان على قناعة بأن "اللصوص والحسّاد أخطر الكائنات على الإطلاق"، وأن على "شيطانة الحقول"، و"أم الرعب"، و"ظلمة السبعين"، و"الهامة اللامة"، و"بنت الهاوية"، أي رَوعه، بعدم التسامح معهم.
وحين تتحول "الأوهام" إلى صناعة محترفةٍ تتبناها وتروجها وتسوّق لها بعض النخب تتحول إلى وباء، يصيب العقول وهو أخطر من أوبئة الأجساد بما لا يقارن، بحيث يصبح من المستحيل أن ينجو المصاب إلا بصعوبة بالغة، وهذا ما حدث مع "محجان" تماماً، الذي نسي اسمه الحقيقي "عبيد بن ربيع"، كما نسيه الآخرون أمام لقبه السائد، المستمد من تلك "العصا الطويلة" التي تخبط بها الراعيات أوراق الأشجار العالية لتتساقط وتأكلها الماشية، حتى بات هو "العصا الطويلة"، و"السيّد الجديد" بفعل الخوف الذي نفخته فزّاعته في المكان، وبين قاطنيه.
"والآن، وقد عرف الناس في البلاد أمر الرّوع، وباتوا يترقبّون فعلها، آن لمحجان أن يمشي في الحارات مرفوع الرأس، يراه الجميع ويفتحون معه الكلام عن الأخبار، والزروع، والمحاصيل، ويسألونه عن الرّوع".
ومن جهة ثانية، فإن غالبية صناع الوهم لا ينتمون للوعي أو تيّاراته المختلفة، ولا تربطهم بالعقل أي رابطٍ، وأقصى غايتهم الارتزاق من هذا الطرف أو ذاك، وتسويق أزماتهم النفسية والعاطفية والمعيشية، عبر تخريب الأذهان والترويج للشعارات الرنانة والمزايدات الجوفاء، رغبة في مصالح شخصية ضيقة، فـ"محجان" حوّل أرضه بفعل "الرّوع" من "بور" تلهو فيها الثعالب إلى حديقة غنيّة بالمحاصيل".
ولو رأى صانع الفزّاعة مجموعة من العصافير تصطف على يديها لتنال قسطاً من الراحة، فهذا يعني أنها قد اكتشفت الحيلة وتحرّرت من الخوف، وهذا ما كان مع "محجان" بعد أن شاهد غراباً يقف على رأس "الرّوع"، ومن ثم قام بفعلته عصفور صغير، وفي اليوم التالي كانت صدمته الكبرى حين رأى جثة معلقة على الفزّاعة، مع أنه انتزعها من مكانها، ونقلها إلى مكان آخر، حيث تجلى أمامه "الموت كغابة ملعونة"، فبات "يلتفت إلى الوراء، ويضرب بيديه الهواء كمن يطرد عن نفسه خليّة من الدبابير هجمت على وجهه"، ولم يستطع أحد إيقافه وهو يولول ويصرخ، ومن ثم يصاب بإغمائه جعلت من رآه يظنّ بأن مسّاً من الجن أصابه!
في حياة البشر فزّاعات ينصبها صنَّاع الوهم لأهداف مختلفة، وأحياناً تتحوّل فخّاً يقعون في تيه صحرائه، فهو يدرك أن الفزّاعة من صنيعته، ويهددها بالاقتلاع أو الاستبدال، لكنه لم يتمكن من فعل ذلك، بل عمل على استرضائها، فألبسها مصاغ زوجته، وأخذ يغني ويرقص لها، حتى أن من شاهده خاله يُمارس السحر أو كَفر، وصار يعبد ذلك المخلوق الخرافي، أو "الهيكل" الذي تفنن في صناعته، وألبسه من ثيابه.
وقبل إحراقه لكل الفزّاعات إلا خاصته، انتشرت "في الخفاء أحاديث كثيرة عن الرّوع التي تجرّ أسمالها وهي تمشي في الحقول، عن عينيها المشعّتين في الظلام، مثل جمرتين من نار، عن الحيوانات التي وجدوها ميتة في أطراف القرية، وقيل إن السعار أصابها.. قيل أيضاً إن القرية حلّت بها لعنة الرّوع، فذبلت الأشجار المثمرة الخضراء، وبحث الناس عن مسببات الجفاف"، وكأنه الإصرار على الرضوخ للوهم بكل تكويناته، وانتصار لديكتاتورية من نوع آخر، لمن كان في الهامش، وبات صاحب "الرّوع" ليس فقط الأكثر سطوة، بل الوحيد في القرية.
هي رواية ليست عن القرية وطقوسها، وإن بدت كذلك، بل رواية سياسية ونفسية وفلسفية عميقة تتجاوز جغرافيتها العُمانية، وزمانها المُقدّر في النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي، فما دامت الديكتاتوريات سائدة في هذه الجغرافيا أو تلك، ثمة فزّاعات لتخيف الطيور، قد يتماهى معها صانعها، الذي هو صانع الوهم، فتصيبه بالرّوع أيضاً، وقد يغضب منها، ويُنفّذ تهديداته التي عجز عنها "محجان" باغتيالها أو استبدالها، أو كليهما.