
كتب يوسف الشايب:
تناوُل تجربة المخرج العراقي قيس الزبيدي في السينما الفلسطينية، مخرجاً ومونتيراً ومؤرخاً وحافظ أرشيف، ورحل عنّا، مؤخراً، أمر من الصعب الإطاحة به في مقال، لذا أثرت الحديث عن عددٍ من أعماله "الأيقونيّة"، التي أنتجتها دائرة الثقافة والفنون في منظمة التحرير الفلسطينية.
فيلم "صوت من القدس" (1977) للمخرج العراقي قيس الزبيدي كان أول إنتاجات الدائرة، تلاهُ فيلم "حصار مضاد" (1978) للزبيدي.
وفيلم "صوت من القدس"، كما يصِفُهُ صاحبُهُ في كتابه "فلسطين في السينما"، فيلم تسجيلي من إنتاج العام 1977، في عشرين دقيقة، عن سيناريو الزبيدي نفسه، ورسوم مصطفى الحلاج، وتصوير حازم بياعة، وموسيقى وغناء مصطفى الكرد، وهو عبارة عن لقاء مع الفنان الفلسطيني مصطفى الكرد، والذي يناضل ضد الاحتلال مستخدماً عُودَهُ وصوتَهُ، فيُغَنّي للمقاومة والوطن.
أما فيلم "حصار مضاد" (1978)، وهو الفيلم الفائز بالجائزة الرئيسية في مهرجان "أوبرهاوزن"، فهو، حسب الزبيدي نفسه، إنتاج مشترك ما بين دائرة الثقافة والإعلام في منظمة التحرير الفلسطينية، كما يُسَمّيها، والجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، ويتَّكئ على مادة أرشيفية متنوِّعَة المصادر، وهو "عادة بناء لوثائق سينمائية عن انتفاضة الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية، حيث الاحتلال يُحاصِر كل جماهير الضفة، وإسرائيل تؤكد تحرير أراضيها المقدسة، ولكنّ الشعب الفلسطيني المُتَمَسِّك بوطنه يُحاصِر الاحتلال.. يتناول الفيلم تظاهرات العرب ضد الجيش الإسرائيلي والشرطة الإسرائيلية".
"وطن الأسلاك الشائكة"
وكان فيلم "وطن الأسلاك الشائكة" (1980) للمخرج قيس الزُّبَيْدي، نقطة تحوّلٍ في الإنتاجات الوثائقية للدائرة، وعنه يقول صاحبُهُ للمخرج السوري محمد ملص، في الكتاب الصادر في العام 2019 لملص بعنوان "قيس الزبيدي: الحياة قصاصات على الجدار"، عن دار "نوفل" دمغة الناشر "هاشيت أنطوان" في بيروت: حين قررتُ أن أعمل على فيلم "وطن الأسلاك الشائكة" لم أكن أريد الاعتماد على الوثائق، كنت أنوي التصوير في الضفة الغربيّة عن طريق فريق ألماني، لكن هذا تعثَّرَ أيضاً. يتناول الفيلم موضوع الاستيطان الصهيوني في فلسطين، وذلك من خلال شهادات فلسطينيّين، وأحاديث الناطق الرسمي لحركة "غوش أيمونيم" الاستيطانية وأقوال المستوطنين، ومن خلال عَقْدِ مواجهةٍ بين منطقين متناقضين، هما المنطق الصهيوني الذي يدَّعي أحقيَّتَهُ في هذه الأرض، ووعوده بتحويلها جنّةً تستوعب مئات الآلاف من المستوطنين، والمنطق الفلسطيني بموازاة الأحاديث الصهيونية، ومواجهتها، كما يقدِّم أحاديث لعددٍ من المهاجرين اليهود القادمين من دوَلٍ غربيّةٍ وشرقيّةٍ عِدَّة، ليفضح من أين أتى هؤلاء، ولأيّ سببٍ أتَوا. ويقدِّم الصورة المأساوية التي يُعاني نتيجتها الفلسطينيّون، وهم أصحاب الأرض الأصليّون، ويفضح من خلال ذلك طبيعة المنطق والموقف الصهيونيَّين الاستيطانيَّين.
وحصل الفيلم على دبلوم تكريم من الاتحاد الدولي للنقّاد في مهرجان لايبزع السينمائي الدولي في العام 1980، والجائزة الذهبية في مهرجان دمشق السينمائي الدولي في العام 1981.
وفي مقالٍ له بعنوان "الفنان الذي خَلَقَ وثيقَتَهُ"، نُشِرَ في مجلة "الرافد" العام 2004، كتب الناقد فيصل درّاج: وطن الأسلاك الشائكة، يكشف، على مستوى المعنى، عن انتقال فلسطين من زمن البراءة، حيث الفلاح الفلسطيني منصَرِفٌ إلى حقْلِهِ، إلى زمن الإثم الصهيوني الذي يمزِّقُ كيان الفلاح وهو يمزِّقُ أرضَهُ، ويُسَيّجُها بأسلاكٍ شائكةٍ، كأن الصهيوني المنتصر خالقٌ جديدٌ للقَدَرِ الفلسطيني كلِّهِ، يحدِّدُ المسموح والممنوع، ويُلغي الأسماء القديمة بأسماء جديدة، قبل أن يُقَرِّرَ إعدام من يشاء والعفو عمّن يشاء.. ويكشف العمل، على مستوى الرؤية، الانتقال من "التاريخ العام" إلى تجليّاتِهِ الإنسانية المُشَخّصَة التي تُعْلِنُ عن جدل الكذب والانتصار، ذلك أن الصهيوني يقول شيئاً ويفعَلُ آخر، تاركاً للفلسطينيين فضائل القهر والحرمان والبوح الحزين، لذا يُصوِّرُ قيس شكاوى الفلسطينيين التي تتصادى بين الذاكرة الحزينة والأسلاك والأرض المحتلة المنهوبة، وتتجمَّع في عجوزٍ ذابلَةِ العينَين تحتَضِنُ صورتَيْ ولَدَيها الشهيدين، ويُصوِّرُ، في تزامنٍ يترجم الحقيقة، صهيونيين يقفون في فضاءٍ مغايرٍ، يخلطون الكلام بالانتصار والكلام المنتصر بدعاوى زائفة. وما الكذب، الذي تطارِدُهُ الكاميرا، وتعلِّقُ عليه، إلا الفرق بين حقول فلسطينية مبتورة ومُسَيَّجَة وبنايات شاهقة تربِضُ فوق حقولٍ قتيلةٍ كثيرةٍ، وكلام عن "مكان للجميع" تغطّيه الطائرات، وتعتَقِلُهُ الدبّابات والأوامر العسكرية.
وتابع درّاج حديثَهُ عن الفيلم بالقول: حين يتلفّظ الإسرائيليّ بجملة "نحن لا نطرد أحداً وهناك مكانٌ للجميع"، تَرُدُّ عليه الكاميرا – الوثيقة بما يكشِفُ زيفَ كلامِهِ، عن وعيد الطيران والمدافع، ثم خطاب "مناحِم بيجن"، والمأخوذ بـ"نقاء أرض الميعاد"، فمكبّرات الصوت وحظر التجوّل والقمع والسجن، وتلك الأسلاك الشائكة التي تحاصر الأرض والإنسان والحقيقة. يترك قيس الفلسطينيّ مع وجهٍ حزين، ينعى "حقوق الإنسان" الشهيرة، ويُوَكِّلُ "الأرشيف السينمائي" بالدفاع عن الفلسطينيّ المُسْتَلَب، حيث "الوثيقة" تنْصُرُ القولَ الفلسطينيّ، وتتَّهِمُ الكاذب بالمطمئن إلى أيديولوجيا الانتصار. تتحوَّل الوثيقة السينمائية محامياً نزيهاً لا صوتَ له، إلا من آهة الفلسطينيّ التي لا تنتهي، وأصوات المجنزرات الإسرائيلية التي تغتصب الأشجار وطيّات الذكريات.
تغدو "الأسلاك الشائكة" في فيلم قيس الزبيدي، يواصل درّاج، مجازاً متعدِّدَ الأبعاد، فهي عنوان المسموح والممنوع، وما كان وما صار، والحدّ الفاصل بين ملكيّة شرعيّة وأخرى مغتَصِبَة، وهي الموقع الجارح الدمويّ الذي يستدعي العقاب.
وفي العام 1983 كان الفيلم التسجيلي "مواجهة" لقيس الزبيدي، وقال عنه في كتاب "الحياة قصاصات على الجدار": يتناول الفيلم الاجتياح الصهيوني للجنوب اللبناني، وغزو مدينة بيروت في العام 1982، وتفصيلات تلك الأحداث الفاجعة التي وقعت في أشهر صيف ذلك العام، حيث حشدت القوّات الصهيونية مئات الآلاف من جنودها، وعتادِها الحربيّ، من مختلف أصناف الأسلحة الفتّاكة، لضرب البِنْيَة التحتيَّة لمنظمة التحرير الفلسطينية، وإنهاك قوى الثورة والمقاومة، وإيقاع أكبر الخسائر بشريّاً وماديّاً، بحيث يستعين الفيلم بشهاداتٍ من الناس العاديّين، كما من قيادة الثورة والمقاومة مثل ياسر عرفات، وجورج حبش، والرسميّين اللبنانيين مثل شفيق الوزّان وصائب سلام، ومن قيادة حزب الكتائب اللبنانية مثل بيار الجْمَيّل، ليُبيّن تفصيلات المشهد ومفرداته الذي ستكون مجزرة صبرا وشاتيلا نهايَتَهُ الدمويّة.
فلسطين سِجِلّ شعب
وكان من بين آخر إنتاجات الدائرة، حسب عديد المصادر، فيلم "فلسطين سِجِلّ شعب" لقيس الزبيدي (1985)،
ويمْتَدُّ على 110 دقائق، وهو عن سيناريو قيس الزبيدي نفسه، مع استشارة تاريخية لكل من د. مارتين روبه ود. إميل توما، وتصوير: ن. بافلوف وفخري ملكاوي، ومونتاج: عدنان سلوم، وكتب التعليق: د. إميل توما، وقرأه: خالد أبو خالد، في حين كان عدنان مدانات مساعد إخراج.
واعتمد الزبيدي في فيلمه على مواد فيلمية من أرشيفات برلين، وبودابست، وروما، ولندن، ووارسو، وصُوَر فوتوغرافية من مديرية المكتبات والوثائق في عمّان، ووكالة (أ.د.ن) في برلين، وهو من إنتاج الدائرة بالتعاون مع أستوديو ديفا للأفلام التسجيلية في برلين، وهو الفيلم الحاصل على جائزة لجنة التحكيم الخاصّة في مهرجان دمشق السينمائي الرابع (1985)، وجائزة التحكيم الخاصة في مهرجان فالنسيا بإسبانيا (1986).
ويعتمد الفيلم، حسب الزبيدي، على الوثائق، وعلى مقابلات متعددة مُصوَّرَة مع عزّت دروزة ونمر المعرّي، وقال: لم أتمكن من دخول الأردن لتصوير بقيّة الشخصيات التي كنا نُريد أن نقابلها، ما سبَّبَ لنا مأزقاً، في حين وصَفَهُ محمد ملص في كتاب "قيس الزبيدي: الحياة قصاصات على الجدران": إنه تسجيل فريد من نَوْعِهِ للقضية الفلسطينية، وقراءة لها تمتد من أوائل القرن العشرين حتى منتصف السبعينيات منه، استناداً إلى وثائق بصرّية نادرة ومسبوكة في سياق سيناريو بصريّ مُحْكَم الصنعة، مترافق مع القراءة التاريخية، كما ساهَمَتْ في التعليق والإعداد والاستشارة نخبةٌ من الفلسطينيّين المعروفين، كتبها المؤرخ الدكتور إيميل توما، وقرأ التعليق الشاعر خالد أبو خالد، وتضمّن شهادات لأعلامٍ من ذوي التجربة والحضور، واستُعين بأرشيفات عالمية نادرة.. يُعْتَبَر هذا الفيلم استثنائيّاً، وخاصةً لا بد منه لمن يريد معرفة طبيعة القضيّة الفلسطينية وتاريخها وتطوّراتها وتحوّلاتها، وإلى جانب قيمة الفيلم الجمالية، ثمّة قيمة تحليلية وعلمية، فهو يقدّم كميّةً كبيرةً من الصور السينمائية القديمة التي لم تُنْشَر من قبل، إضافةً إلى المقابلات مع القادة الفلسطينيّين.
وعن الفيلم كان الناقد الفلسطيني الراحل بشّار إبراهيم، وفي مقالٍ بعنوان "سرديّات بصرية مبكرة مبتكرة ورائدة"، نُشِرَ في مجلة "الجزيرة الوثائقية"، في تموز 2010، كتب: يُعْتَبَرُ هذا الفيلم وثيقةً سينمائيةً في غاية الأهمية، إذ يُحاول فيه الزبيدي رصْدَ سيرة فلسطين، خلال القرن العشرين، من خلال وثائق بصريّة نادرة وحيويّة، إضافةً إلى تسجيل الفيلم وتقديمه عدداً من الحوارات والشهادات مع شخصيّات وأعلام وروّاد فلسطينييّن، أضْحَتْ الآن، بعد مرور وقتٍ رحَلَ خلالَهُ كثيرٌ منها، جزءاً من ذاكرة القضيّة والشعب ووجدانه، وتستطيع أن تعبّر بتجاربها الفرديّة والخاصّة عن عموم تجربة الكفاح والنضال الفلسطينيَّين.. يُمْكِنُ القَوْل بشجاعةٍ وجرأةٍ إن فيلم "فلسطين سِجِلّ شعب" للمخرج قيس الزبيدي، هو أحد أهم الأفلام الوثائقية الطويلة التي صيغَتْ حول القضية الفلسطينية، بتاريخها وتطوّراتها، بثقةٍ واقتدارٍ.. إنها 110 دقائق من التسجيل البارع، والوثائق النادرة المنسوجة بجهدٍ واضحٍ، وتماسُكٍ فنيٍّ وفكريٍّ، يُنَظِّمُهُ سيناريو مُدْرِكٌ لما يُريدُ قَوْلَهُ، بناهُ المخرج قيس الزبيدي نفسه، وعبَّرَ عنه التعليق الواعي الذي أنجَزَهُ الدكتور إميل توما، أحد أهم المؤرخين والدارسين للقضيّة الفلسطينية وأبرزهم، كما أن الوثائق البصريّة التي قدّمها هذا الفيلم هي ممّا تمكّن المخرج الزبيدي من الحصول عليه من أرشيفات عالمية.
وخلُصُ إبراهيم إلى أن "الفيلم سيبقى أحد أهم الأفلام الفلسطينية المنجَزَة، في الأقل لأنه نال شرف محاولة كتابة تاريخ فلسطين، وصوْغِهِ بصريّاً، ولم يترك تلك المهمة للصهاينة الذين اخترعوا روايات وروايات، بحيث يبني الفيلمُ روايتَهُ، ويحشد المخرج قيس الزبيدي ما أمْكَنَهُ الحصول عليه من وثائق بصريّة، ومن مَشاهِد لم يَدُرْ بِخَلَدِ من التَقَطَها، أن مُخْرِجاً من طراز الزبيدي، سيأتي من بعد، ليُعيد بناءها مونتاجيّاً، ويمنحها سياقاً، لينسج روايةً فلسطينيةً لذاكرة مكان، هو فلسطين، ويقيناً أنه لو عُلِمَ بأمرها لأُتْلِفَت، إذ إنَّ قيس الزبيدي استخدم الصور ذاتَها التي التقطها غربيّون، في فترات مبكرة من القرن العشرين، ووضَعَها في سياقٍ يخدم رواية فلسطينيّة للتاريخ، على العكس ممّا كان يفكّر مَن التَقَطَها ويُريد".
أما فيصل درّاج، وفي المقال المُشار إليه أعلاه، فوصَفَهُ بالمادة الوثائقيّة المدهشة، بحيث تعتمد الوثيقة والتعليق العلمي وشهاداتٍ حيّةً عارفةً نزيهةً: "يقدّم الفيلم، في مستوياته المتعدّدة، نصّاً إيضاحيّاً تثقيفيّاً مُوحياً، كما لو كان يكتب بالوثيقة السينمائية ما كتَبَهُ المؤرّخ بالحِبْر والورق والمفاهيم. وربّما انشغال الفيلم بالدقّة المعرفيّة، هو الذي أمْلَى عليه أن يُدْرِجَ في مادته حوارات مع مؤرّخين محترفين، مثل محمد عزّة دروزة وأكرم زعيتر وإميل توما، والأخير هو الذي كتب تعليق الفيلم، مستنداً إلى معرفة عميقة بتاريخ فلسطين القديم والحديث.. واقع الأمر أنَّ في عمل الزبيدي التوثيقي ما يَرُدُّ على أطروحةٍ صهيونيّةٍ تدّعي يهودية الأرض الفلسطينية منذ زمنٍ سحيق".
علاقة مُمتدة
الزبيدي، وفي حديث تلفزيوني لصالح برنامج "أخبار الصباح" على فضائية "المستقبل" اللبنانية"، في الحادي عشر من كانون الثاني 2017، أكَّدَ على علاقته التاريخية بالقضية الفلسطينية، بقولِهِ: عِشْتُ فترةً طويلةً في لبنان وسوريا، وصنَعْتُ أفلاماً كثيرةً عن فلسطين، بدءاً من فيلمي الأول "بعيداً عن الوطن" (1969) من إنتاج التلفزيون العربي السوري، انتهاءً بتسعة أفلام تحت عنوان "مياه قيد الاحتلال" في العام 2006.. القضية الفلسطينية تسكُنُني كما أفلامي، فقد كنتُ جزءاً من الحركة السينمائية الفلسطينية في بيروت، وعِشْتُ فترة الحرب الأهلية التي كانت القضية الفلسطينية أساسيةً فيها.