
كتبت بديعة زيدان:
كان جمهور "كرامة/ سينما الإنسان" السينمائي في دورته الخامسة عشرة، على موعد، مساء أول من أمس، مع الفيلم الفلسطيني "الحياة الحلوة"، وهو فيلم وثائقي صدر في العام 2023 من إخراج المخرج الفلسطيني محمد جبالي.
ويتتبع الفيلم سبع سنوات من حياة المخرج الفلسطيني، بما يشبه اليوميات، فيصور لحظات انفصاله عن عائلته في غزة، والدعم الذي تلقاه من عائلته البديلة في مدينة ترومسو النرويجية، ونضالاته في تقديم طلب للحصول على تأشيرة في النرويج كشخص عديم الجنسية، وصناعة فيلمه الوثائقي الأول "الإسعاف"، الذي يستعرض تجربته كمتطوع في وحدة الإسعاف خلال العدوان الإسرائيلي على غزة 2014.
وكان الفيلم فاز بجائزة أفضل مخرج في مهرجان أمستردام الدولي للأفلام الوثائقية، حيث وصفت لجنة التحكيم، أثناء منحهم الجائزة للفيلم بأنه "تعبير سينمائي في الوقت المناسب عن الحاجة العالمية للاعتراف بإنسانيتنا الكاملة"، وأثنت اللجنة على نقد الفيلم القوي للأنظمة البيروقراطية والسياسية التي تعرقل هذا الاعتراف، مشيرة إلى قدرة المخرج على تغليف الفيلم بالأمل والفكاهة وسط معاناة عميقة، كما أشادت بالفيلم ووصفته بأنه "نداء عاجل للحرية في التنقل، والفرص، والسعي وراء الأحلام"، كما فاز بجائزة جيلدا فييرا دي ميلو في المهرجان السينمائي الدولي 22 ومنتدى حقوق الإنسان، وهو من بين الأفلام التي تتنافس على جائزة "كرامة" في دورة العام 2024 عن فئة الفيلم الوثائقي الطويل.
يحكي الجبالي في الفيلم قصته الخاصة كصانع أفلام طموح يحاول البقاء على قيد الحياة الإبداعية والفعلية، رغم واقعه الصعب، سواء في غزة مسقط رأسه، أو في ترومسو، البلدة الصغيرة في النرويج حيث استضافه هيرمان غرو، رئيس "مهرجان الأفلام النوردية".
يضعنا الجبالي في صورة أدق تفاصيل حياته اليومية، في خضم رحلة كفاحه من أجل الحصول على إقامة نظاميّة في النرويج دون طلب اللجوء، ما يضطره إلى التخلي عن جنسيته الفلسطينية، فمن خلال قصته يقدم وصفاً موجعاً لما كانت عليه الحياة في غزة لسنوات، وهو وصف وإن كان لا يرتقي لفظاعة المآسي التي يعيشها أهل القطاع منذ أكثر من أربعة عشر شهراً، إلا أنه يقدّم مؤشرات على حياة كانت صعبة وباتت مستحيلة.
ويأسر الجبالي، الذي هو راوي الفيلم أيضاً المُشاهد منذ اللحظة الأولى، فثمة خليط في صوته يجمع الحزن بالغصب، بلغة شاعرية بسيطة، ولا تحمل أي شعارات أو خطابات رنّانة، فكان فيلماً إنسانياً بامتياز، لا سيما أنه كان طوال الفيلم يخاطب والدته المقيمة مع بقية أفراد عائلته في القطاع المحاصر، قبل أن يعكس تلك الأحاسيس الفائضة عن مساحة الشاشة، لتحتل عيون المتلقين دموعاً، حين يلتقي بأسرته بعد سبع سنوات من الغياب، فكانت الأحضان سيدة الموقف، وتأكيداً على عمل يجمع بين العفوية والإتقان.
الفيلم لا يتناول الحرب بشكل مباشر، بل يركز على رحلة مخرجه ومعاناته الشخصية في الهجرة والسعي لاستكمال مسيرته الصعبة في الخارج وعدم قدرته على العودة إلى غزة بسبب الظروف القاسية التي يعيشها أبناء شعبه، ليتحوّل مناضلاً بالكاميرا، كما كان أسلافه في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، وما قبل وما بعد.
ويحوي الفيلم كل العناصر التي تليق بوثائقي مهم، فهو علاوة على كونه فيلماً شخصياً وعميقاً، يحمل رسائل مهمة، في حين تكمن قوته الأكبر في صدقه، الذي جعله فيلماً مؤثراً.