
كتبت بديعة زيدان:
يأخذنا المخرج الفلسطيني أحمد أبو منشار، عبر فيلمه الوثائقي "ضوء"، وخلال ثمانٍ وأربعين دقيقة، في رحلة عبر الخليل، التي تعاني الفصل الاحتلالي العنصري، في أوضح تجلياته، فنجد أنفسنا تارة في "شارع الشهداء"، الفارغ إلا من القليل من سكانه الأصلانيّين، والكثير من الحواجز العسكرية والمستوطنين، وتارة أخرى في حي "تل الرميدة" الذي تفوق فيه معاناة سكانه التوصيف بالكلمات، قبل أن نرتحل رفقة كاميراته إلى حيث عائلة "الهذالين" البدوية في "مسافر يطا"، قرب الخليل، والتي جرى ويجري تهجير سكانها، من قبل سموتريتش، وعصاباته المتطرفة، مستغلين أجواء حرب الإبادة على غزة.
عبر حكايات لأهل تلك المناطق، وغيرها من تلك التي تعكس اليوميات الصعبة لأهل الخليل مدينة ومحافظة، يقدّم أبو منشار، في فيلمه المدعوم من فريق (CPT-Palestine)، فمن شوارع المدينة التي كانت مقسمة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، إلى البادية المحيطة بالمدينة، يستكشف المشاهد، حالات متعددة من الظلم الواقع على الفلسطينيين في الضفة الغربية عامة، والخليل خاصة، والناجم، بطبيعة الحال عن استمرار الاحتلال، وإن كان يسلط الضوء على الطريقة التي يواصل بها الشعب الفلسطيني الصمود، والتمسك بالأمل.
في الفيلم الفلسطيني الوثائقي الطويل، وعرض مساء أول من أمس، ضمن فعاليات "كرامة" السينمائي بدورته الخامسة عشرة، في العاصمة الأردنية عمّان، يستكشف المشاهد ذلك الضوء الذي ينيره الفلسطينيون رغماً عن السواد الذي يعمّمه الاحتلال ومستوطنوه يومياً، ورغماً عن القبضة القمعية وتوحش الجنود الإسرائيليين، الذين يفضح العديد من مشاهد الفيلم انتهاكاتهم التي تطال حتى الأطفال في الخليل، وتصل حد اشتراط إدخال المواد الأساسية للمنازل في عديد أحيائها بالحصول على تصاريح خاصة، وهي ما يجب الحصول عليها للدخول إلى منازلهم في أحيان أخرى، ففي الخليل "يجري التحكم من قبل الاحتلال وجمعيات المستوطنين في كل شيء".
ويبدو أن اسم الفيلم "ضوء"، يتأتى من جهة لكونه يسلط الضوء على العدوان الإسرائيلي المتزايد بحق الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية، وخاصة الخليل التي تواجه نظام فصل عنصريا صارما منذ عقود، وذلك لكسر حالة الصمت واللامبالاة والإهمال والتغافل عمّا يحدث هناك، ومن جهة أخرى فإن العنوان يحافظ على رسالة الأمل لأصحاب الأرض، والمنازل، والشوارع، حيث يجري التنكيل بمن تبقى منهم، بعد عقود من التنكيل المتصاعد.
ويتكئ الفيلم على حكايتين مؤثرتين بالأساس واحدة منها لسيدة من تل الرميدة، والأخرى لشاب في "مسافر يطا" من عائلة "الهذالين" الصامدة في قرية "أم الخير"، التي استشهد على مداخلها أيقونة النضال الشيخ سليمان الهذالين، في الخامس من الشهر الأول للعام 2022، عن سبعين عاماً في أعقاب دهسه من شاحنة تتبع قوات الاحتلال.
ونجح أبو منشار في الدمج المتقن بين السياسي والإنساني، ما يجعل من "ضوء"، الذي عُرض قبل "كرامة/ سينما الإنسان" في مهرجان الكويت السينمائي، ولا يزال يجوب العالم في عروض بمختلف قارات العالم، هو الذي قال: "طوال حياتي، غالباً ما كان يطغى صوت النقيض على الروايات الأخرى، بما فيها روايتنا نحن أصحاب الأرض والحق، ومع ذلك، فإننا وعبر صناعة هذا الفيلم، لا نزال نسعى إلى تغيير السرد السائد، وتوفير مساحة مؤثرة للناجين من عنصرية الاحتلال، للتعبير عن تجاربهم".
ونجح أبو منشار في ذلك، ففي مرويات الشخصيات الفلسطينية الحاضرة في فيلم "ضوء" (Light)، ينجح في منح "المايكروفون" لأولئك الذين يقاومون مآسيهم اليومية بسبب الاحتلال ومستوطنين بالصمود، وبمزيد من الأمل، رغم الأمل، بصمت، ودون صراح، وكأنه يقول إنه آن الأوان للاستماع لأصواتهم، وإخراجهم من الصمت الذي يبديه العالم إزاء معاناتهم.
ويأتي الفيلم في ظل ظروف صعبة تجعل منه وثيقة بصرية مهمة، في ظل تواصل حرب الإبادة، واتساع نطاق الاستيطان، في الأربعة عشر شهراً الماضية، بصورة غير مسبوقة، ومنها ما يحدث من مخططات يجري تنفيذها الفوري على أرض الخليل مدينة ومحافظة، وفي ظل المزيد من الاستيلاء على آلاف الدونمات للتوسع الاستيطاني، والمزيد من هدم المنازل الفلسطينية، وتهجير العائلات في المناطق التي يرونها منعزلة، لجهة تنفيذ خطة اليمين الصهيوني المتطرف بضم الضفة الغربية بأكملها إلى ما يصفونه بالسيادة الإسرائيلية.
ووسط أعمال العنف المروعة التي تجري الآن في كامل الجغرافيا الفلسطينية، وخاصة تلك المحتلة في العام 1967، يسلط أبو منشار في فيلمه هذا على شكل آخر من المقاومة الفلسطينية، عبّر عنه في نهاية الفيلم، بالقول على لسان الراوي: "ما حدث اليوم، سيكون جزءاً من قصتي في المستقبل.. ربما سأجلس ذات يوم مع أحفادي، أحكي لهم تجربتي في الحياة تحت الاحتلال، وكيف كانت الحياة حينها.. سأخبرهم كيف نجوت أنا ومجتمعي من نظام الفصل العنصري العنيف".