
كتبت بديعة زيدان:
في روايته "سمك ميّت يتنفس قشور الليمون"، يسرد لنا الروائي السوري الراحل خالد خليفة حكايته، وما تغلغل في روحه من عشق، وألم، وإحباط، وخيبات أعطبت سورياه، وهو ما عبّر عنه بوضوح في متن السردية الأخيرة له.. "كلّ من يدعي امتلاك الحقيقة هنا ساذج. حقيقة خرابنا وإذلالنا ستبقى لعقود على جلودنا، لا يمكن لأحد أن يدّعي النجاة، لأول مرة تصبح بلادٌ كاملة بمنأى عن النجاة، حتى الذين هاجروا، نجاتهم مرهونة بأحفادهم من الجيل الثاني والثالث، لكنّ كل من شرب من ماء هذه الأرض، وعاش طفولته هنا، لا يمكنه أن يكون ناجياً، حتى لو عاش في أبعد نقطة".
الرواية التي صدرت، مؤخراً، أي بعد رحيل صاحبها، عن "نوفل" دمغة الناشر "هاشيت أنطوان" في بيروت، كانت بمثابة قنبلة يدوية ألقاها السارد الذي كان حالماً وواقعياً في آن، قبل أن ينسحب من الحياة، وتسدل الستارة على مسيرة استثنائية على الصعيدين الشخصي والإبداعي، وكأنها كلمة أخيرة أو بوح أو وصيّة من خالد خليفة المُعتاد على الكتابة التي تتميّز بسرابيّة البساطة، والحفر عميقاً خلف المتن البارز على الصفحات، وبالصدق الفائض عن الحاجة، بينما نتتبع، مع تقليب الصفحات، ما حدث بـ"فرقة المسوخ"، وما أحدثوه هم بدورهم.
ويعود بنا خليفة إلى ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، وبالتحديد من اللاذقية، كنموذج لما يحدث في كامل الجغرافيا السورية، وقتذاك، وربما لا يزال، من بطش النظام وأعوانه، ومن فسادٍ ومتاجرةٍ بآلام الناس ودمائهم، عبر حكاية شباب اعتقدوا أنهم سيغيّرون العالم، متكئاً على لغة فائقة الجمال، وعلى خط سردي محكم، كفنان يحرك دمى روايته، فيرقصها تارة، ويحييها ويميتها، ويجعل منها مُنتشية أو متكورة كجثة على قيد الحياة تارات أخرى، بخيوطه الخفية واللا خفية في آن.
تتمحور حكايات "سمك ميّت يتنفس قشور الليمون"، حول مجموعة شبابيّة شكلت فرقة موسيقية غنائية، كان لها فعلٌ بارزٌ في الاحتجاج على بناء الميناء الجديد باللاذقية، وتدمير الواجهة التاريخية لهذه المدينة البحرية.
كان الانطلاقة من كنيسة في عيد الفصح، على وقع صراخ الأب المسؤول عنها رُعباً من مخبري النظام، الذين لا بد أنهم ينتشرون في المكان، كما في كل مكان، متخفين في ثياب جمهور هاج مع الأغنيات التي قدمتها الفرقة المكونة من مجموعة أصدقاء مسلمين ومسيحيّين من طبقات مختلفة، جمعهم حبهم للموسيقى والوطن.
نجح الحفل، وسرعان ما بات يتم الترويج بأنهم "مجموعة من شهود يهوه، وماسونيّون"، يريدون تخريب الثقافة الوطنية، قبل اتهامهم لاحقاً بأنهم "عبدة للشيطان، ومصاصو دماء يقيمون حفلات جنس جماعي".
ملاحقات أعضاء فرقة "مسوخ بلاك بيرد"، التي طالت حتى أقارب الناشطين فيها، منذ ردم البحر، وقبل وبعد تفكك الفرقة كما المدينة، غيرت مصائرهم، فـ"ماريانا" التي كانت متورطة في عشق "سام"، وتربطها علاقة متميزة بابن عمتها "روني" منذ طفولتها، توافق على الزواج من غيره والهجرة إلى أميركا كما نصحتها جدتها، فكلتاهما لا تزال مفجوعة بمقتل والدها العميد "جوزيف" برصاصة من مرافقه، بعد أن قرر الاستقالة لعدم قدرته على الاستمرار في العمل مع "الانقلابيّين قتلة رفاقه"، قبل أن يُسجّل حادث الاغتيال باعتباره انتحاراً، وفق تقرير الطبيب الشرعي، الذي سطّره تحت تهديد السلاح في غرفة مظلمة بالمستشفى، فكان تقريره الأخير قبل أن يفرّ مهاجراً من سورية إلى البرازيل.
"روني" صاحب مُقترح اسم الفرقة، يسعى إلى الاستمرارية، فيؤسس مدرسة للموسيقى، قبل أن تتركه "يارا" وتهاجر إلى كندا، هو الذي كان يلتقي مع "موسى"، و"سام" متعدّد العلاقات، في دكّان والد الأخير، للعزف وتدخين الحشيش المُهرّب من بيروت، كما "الويسكي"، و"الدخان الأجنبي"، ويتحدثون في أمور عدّة، منها حكايات عن عمّتي "سام": "فاطمة" و"أمل"، بحيث تقاطع الأولى الجميع بعد سجن ابنها "غسّان" لمعارضته للنظام، في حين كانت تستغل الثانية نفوذ ابنها اللواء في المخابرات السورية العامّة، حدّ التكسّب.
التفكك والانفصال على المستوييْن الفرداني أو الجمعي محور لا يمكن تجاهله، وكان التعبير عنه في مصائر عناصر الفرقة والمحيطين بهم، فـ"موسى" يفترق عن "سام" بعد تباهي الأخير بقريبه في المخابرات السورية، واستثماره لهذه العلاقة بقريبه الذي أوصله للعمل في التلفزيون الرسمي، والأمر ذاته ينسحب على العلاقات العاطفية التي تفككت كما سورية بأكملها، باستثناء "موسى" و"منال" اللذين ينتهي بهما المطاف زوجين، في نموذج يقاوم الانهيار الكامل، وجده خليفة حتمياً هنا، مُعبراً بذلك في أكثر من موقع، منها ما أراده فجّاً وصادماً.
"مجارير الخراء تغرق المدينة، والبحر وقشور الليمون الجافة هي نحن حين نقاوم الاندثار"، ولعل حكاية "شاهيناز" والدة "موسى" تعبّر عن تلك القشور الجافة.. "كانت أمي شاهيناز والخالة جورجيت، تعتبران تدمير الكورنيش الغربي وتوسيع المرفأ بمثابة تدمير للذكريات، وانتقام مؤجل من عدوّ.. حاولتا جمع ألف سيّدة للوقوف في وجه الجرّافات، ومنعها من تدمير الصخور والمرجان والطحالب والكهوف الصغيرة التي تحتضن بيوض السلاحف، وتعيش منذ الأزل في هذا المكان.. خططتا لمسيرة احتجاجية إلى القصر الجمهوري في دمشق مع رفيقاتهما، وتقديم عريضة على مرأى من العالم، تطالب بوقف تدمير واجهة المدينة البحرية التاريخية.. في اليوم التالي لمبادرتها التي تداولتها نساء المدينة بحماسة، وبدأن بتسجيل أسمائهنّ، وصل إلى المستشفى الوطني رقيب أوّل من المخابرات، يحمل رسالة شفهية من ضابط كبير في دمشق، يمتدح عملها كطبيبة ويأمرها بالصمت، وإلا فستندم هي وعائلتها.. كان تهديداً واضحاً مُغلفاً بلهجة ودودة، ومن بعده خرست أمي".
الرواية، التي توزعت على أربعة فصول، دمجت في عنوان كل فصل، ما بين حكايات واستعادات لحيوات عدّة، أخذت اسمها من قصيدة يمكن وصفها بالحلمنتيشية، كتبتها "منال"، بما يختزل الكثير ممّا أراد خالد خليفة قوله في رواية تكشف عن تلك التناقضات التي تعتمل في النفس الإنسانية، فتُظهر الشخصيات مُتعددة الجوانب جُوانيّاً وبَرّانياً.. وتقول القصيدة:
"نحن سمك ميّت يتنفس أشجار الليمون
نضع الزهور على مقابر الأمهات
ونسألها عن مواعيد تفتّحها
كلّ مواعيد حياتنا خاطئة
بعد أن نُصبح مُسوخاً
وننزل أدراج الكنيسة
سأقبّلك كما لو كنت قاتلي
أنبش قلبي، أخرج ما فيه من زهور يابسة".
وما بين قيادة الذئب، والمخدع تحت الشجرة، والسمك الذي يتنفس رغم موته، وطعم اللحم البشري، يسرد خالد خليفة هنا، في مرثيته السردية لسورية، شيئاً من سيرته الذاتية موزعة على شخصيات الرواية المحورية والعابرة، كما يتراءى لي، وكأنه لم يمت، أو لعله في قيلولة، سيستيقظ منها ذات صدمة، هناك من تحت شجرة ليمون، يتنفسها الموت المفروض على بلاده، التي فيها كثيرون يحبّون الحياة، وكان من أبرزهم، بل ويعيشونها حتى ولو في ظل شجرة تشتعل، وكأنه يصفّي حساباته مع أزمنته، ومع الجنة التي يبحث ولا يجد، ومع شيء من تاريخه الشخصي، والمدن التي أوجعته من فرط شغفه بها، والفراغات التي تنتظر من يكملها نصّاً أو اسماً أو حكايات، كما الموسيقى التي لعله اكتشف، كما شخوص روايته، أنها لا تكفي لتغيير العالم.