تاريخ النشر: 03 كانون الأول 2024

دردشة مع القاص الأردني هاشم غرايبة: زرت القدس طفلاً صحبة جداتي الحكيمات

 

حاوره زياد خداش:

 

في جامعة اليرموك منتصف وأواخر ثمانينيات القرن الماضي، كنت أقف أمام رفوف قسم المجلات في المكتبة أبحث عن قصص هاشم غرايبة وقصص يوسف القعيد، يوسف سقط من ذوقي سريعاً، وخرج من اهتمامي لأسباب كثيرة أهمها نضجي الجمالي والمعرفي، بينما بقي هاشم أحد أهم من تأثرت بهم، أتذكر قصصه في مجلة المعرفة السورية، وأتذكر أني حاولت أن التقي به عبر رفاقه في الجامعة، من لغة هاشم السردية أخذت الكثير، الشعرية المدروسة ومتانة العبارة ونظافة العالم، وقوة اللقطة والانحياز للبسطاء، التقيته لأول مرة في فلسطين قبل أشهر، وحاولت بقوة أن أجد وقتاً لنا لنتجول ونحكي كثيراً عن السرد العربي وفلسطين، لم ننجح، لكن قصصه نجحت في الصمود في قلبي حتى اليوم كمنارة سرد مميزة.. هنا دردشة مع هاشم:

 

*كنتَ يوماً في السجن مناضلاً بعقيدة متينة، ما الذي أضافته لك سنوات السجن؟

- أن تعيش ردحاً من شبابك (سبع سنوات ونصف) خارج السياق الطبيعي أو المتوقع لنشاطاتك الانسانية يدفعك للتفكير بعالم متخيَّل شاسع يوازي او يختلط بضيق السجن ومحدودية خياراته.
تعلمت الصبر والاستغناء والتفكير..، التفكير خارج القوالب الحزبية الصارمة، خارج السجن.
هل أتحدث عن الصبر والاستغناء وأهمية الوقت؟ شرح ذلك سيطول. وتعلمت أن شرف الكلمة يستحق.
مطلع ثمانينات القرن الماضي كانت مكتبة السجن حصيلة تبرعات تمت فلترتها باتجاه كتب التراث بل أمهات كتب التراث (تاريخ الطبري والبلاذري والأمالي لأبي علي القالي وتاريخ الجبرتي ولسان العرب والكامل للمبرّد والبيان والتبيين للجاحظ ونهج البلاغة والأغاني للأصفهاني والسِّير..)، كانت الأفكار العلمانية والتحررية ما زالت تشكل قلقاً للأنظمة الرسمية رغم أنه كان زمن الخسارات (ثورة الخميني، السادات وكامب ديفيد. خروج منظمة التحرير من بيروت، انتعاش السلفية الدينية..)، هذا المناخ أتاح لي ممراً إجبارياً نحو كتب التراث، والوقت كافٍ لأن تقرأ الأجزاء الأربعة لكتاب الكامل في اللغة والأدب، وأن تُضرب عن الطعام لأسبوعين تضامناً مع بيروت ومطالبة بإطلاق سراحنا، (الجوع مذلة، الصوم استغناء) وأن توزع حزنك بين مونت كارلو في تغطيتها لاجتياح العدو الاسرائيلي لبيروت وأن تأسف لخسارة البرازيل كأس العالم على ملعب سانتياغو بيرنابيو..
عدد الكتب التي قرأتها والثقافة التي اكتسبتها من الواقع المر والمتخيل المدعوم بالتفكير أنضجني مثقفاً وسياسياً وكاتباً يتحلى بالصبر والقدرة على التفكير الحر.


*هل السجن مكانٌ للاستكشاف؟

-غريب! مع وحدتك في الزنزانة تنشغل بحماية جسدك فقط. لم أنشغل باستكشاف ما هو داخلي. في السجن بين الملائكة والشياطين كنت شغوفاً بالمعرفة، معرفة الناس وسلوكياتهم، ومعرفة العالم فلسفياً وميتافيزيقياً..
في السجن اكتشفت فائدة الصبر، وقيمة الوقت، وحلاوة الصلاة (لست متديناً).. واكتشفت أن البطل بطل، والجبان جبان، لا علاقة للونه وجرمه وحزبه وبلاغته بذلك.

 

*إلى جانب كونه مكاناً للألم؟
-نعم، الألم والأمل يتناوبان روح السجين. وإلا ما الذي يجعلنا نحتمل. بعد السجن ما يبقى في الوادي غير حجارته، ولكل سجين واديه الخاص. منهم من تكون حجارته الولولة، او التبجح، او النسيان، او الكذب.. قلةٌ من يحافظون على قداسة التجربة وينزهون وجعهم الخاص عن المتاجرة.


*كنت في فلسطين وكنت أرغب في جولة معك في أحشاء رام الله القديمة، من هي المدينة التي ما زالت تسكن روحك يا هاشم، وجدانيا وإنسانيا ومعرفيا؟
-فلسطين بوصلتي. قرب الاشخاص وبعدهم عني، أقيسه بقربهم من القضية وبعدهم عنها.. اعرف فلسطين طفلا قبل عام 1967.
زرت القدس طفلا عام 1960بصحبة "جداتي الحكيمات". تزودنا بخبز المردد بالزيت والبطاطا المسلوقة وسافرت بصحبة جدتي وصويحباتها إلى القدس في باص أخضر مكتوب عليه شركة باصات باميا، وله ربطة تشير الى الانعطاف يميناً، ويمد السائق ذراعه خارج الشباك اذا ما انعطف يساراً.
صور ما زالت تتردد في أحلامي حتى يومنا هذا.. رائحة الجدات ينفضن أغطيتهن عند الفجر، والدرجات القليلة عند الأعمدة ذات الأقواس التي تحمل نفسها، قبة الصخرة عند الضحى والمسجد وقت الجمعة وعبور باب العامود عند العصر عائدين إلى ساحة الباصات..

 

*الشعر في قصصك يُطل بتفاخر، وفروسية سردك تنهره بأدب جَم. هل يحق للسارد أن يخاف من الشعر؟
-ههههه، يحدث ان يقدمني أحدهم بالشاعر الكبير هاشم غرايبة، هو يريد أن يرفعني بالشعر عن السرد درجة.. هل الشعر أهم من السرد في وجداننا؟ أحب قصائد الهايكو القصيرة، الخفيفة مثل السحب العابرة. مثل البرق.. ولكني أترك للنقاد المقاربة ما بين قصصي والشعر.. ولا أدري إن كانت المفاصل الشعرية في كتاباتي هي من تأثيرات الهايكو:
"في قلب الصخر البارد نار غافية.. في قلب الصوان القاسي مياه رقراقة.." أو.. "الغيوم التي تنبجس داخلي.. بودّي لو أزيحها بعيداً. أن أبني منها بيتاً اختبئ فيه، فلا يُفتح الباب لأحد. لا يُفتح الباب أبداً".

 

*لديك رواية فاتنة "القط الذي علّمني الطيران"، مَن الذي علمك الكتابة، أقصد مَن نفخ فيك شرارة الموهبة لتستوي قصصاً بهية؟

-أدّعي بأن جدي هو معلمي الأول. علمتني حكاياته الواقعية والمتخيّلة الاشتباك مع عالم شاسع مليء بالطير والجنّ والحيوان والقمح والشجر والجبل والرمل، والأراضي السبع والسماوات السبع والسنوات السبع والشهور السبعة، وفتحت لي الأبواب السبعة، ودلتني على واو الثمانية..
هناك على العريشة أصغي لحكايات الزير سالم وتغريبة بني هلال ومغامرات الجمّالة يسافرون بين دمشق وحيفا.

 

*في "سنة واحدة تكفي"، رويتَ قصة الاعتقال وقصةَ الحياة هناك، أسألك عن أدب السجون، كيف تقيّم تطوره وعمقه؟

-فيه أدب وفيه كتابه. فيه سجون وفيه مستشفيات. مَن يحدثنا عن أدب المستشفيات، عن الكتابات التي تناولت تجربة المرض مثلاً..
لا أميل لتصنيفات النقاد أدب سجون وأدب نسوان وأدب مقاومة... ولا أحب الكتابة التي تستدرّ عطف القارئ، او تستثير حنقه لأن بطل الحكاية يتعذب.. ما يهمني هو الفن، كيف تقول أهم مما تقول. السرّ في كيف. لما تعاد مشاهد مباراة كرة القدم على البطيء يبدو الحكَم سخيفاً، وتصير النتائج غير منطقية، ويظهر اللاعبون كممثلين رديئين! فالعقل يستحسن ما وقع في النفس موقعاً منفرداً..، الأسلوب وحده قادر على بث الدهشة في السجن أو المشفى أو الملعب.. الأسلوب هو القاص عينه.

 

*اِحكِ لي عن رام الله يا هاشم، أحتاج إلى عيون جديدة تراها.

-زرتُ شعفاط ذات عيد مع أسرتي لنعايد على عمتي التي كان زوجها جندياً يصطحب أهله الى حيث خدمته. وأخذَنا أبي عصراً إلى منتزه البيرة، وأحضرَ لنا بوظة ركب. لم أنس البوظة العالقة على شدق عمتي (أكتبُ عن تلك المشاهد او الروائح والأصوات التي لا أهمية لها في مجرى حياتي لكنها احتلت مكانةً بارزة في ذاكرتي).
بسبب سؤالك أتذكر الآن أننا نزلنا من الباص (باص الشخشير) عند دوار المنارة، واشترى أبي باكيت شوكلاتة "مترو" أخذناه لعمتي..
عام 2023 زرتُ القدس والخليل وبيت لحم وبيت جالا انطلاقاً من رام الله. لكني لم أرَ رام الله كما رآها مريد البرغوثي. ظلت في مخيلتي خليطَ صور مبعثرة وأحلامَ يقظة لم تجد ظلها على أرضها.. عرفت الفندق ووزارة الثقافة ودارة محمود درويش ومقهى في الطيرة.. وشوارع محفوفة بالأشجار والفلل.. لم يُتَح لي الذهاب لتعزية القاص المعلم زياد خداش بوفاة أُمه، ولا زرتُ دوار المنارة، ولا وقفتُ أمام بقالة الطريفي، ولم أعرف إذا كان منتزه البيرة موجوداً أم زال، ولم "تسِل" بوظة ركب من شدقي، ولم أندلّ الطريق إلى شعفاط.