
كتبت بديعة زيدان:
قد يبدو غريباً، إعادة عرض فيلم أردني مرّ على إنتاجه ثلاثة وثلاثون عاماً، لكن يبدو أن للجنة السينما في مؤسّسة عبد الحميد شومان بالعاصمة الأردنية عمّان وجهة نظرها التي لم تبرزها بوضوح، عند عرضه، قبل أيام.. الفيلم الأردني "حكاية شرقية" للمخرج السوري نجدة أنزور، بتصرف عن رواية للسوري هاني الراهب، عن سيناريو وحوار جميل عواد، وإعداد عدنان مدانات، وبطولة الفنانين الأردنيّين: محمد القباني، جميل عواد، جولييت عواد، نادرة عمران، وغيرهم.
متتبع الفيلم، حتى وإن تطوّرت التقنيات بشكل بارز على الصعيد السينمائي، منذ إنتاجه، يمكنه ببساطة أن يدرك أن من بين أسباب عرضه، هذه الأيام، محاكاته للأوضاع التي تعيشها فلسطين والدول العربية، عبر حكاية الصحافي الشاب مصطفى (محمد القباني) الذي يعيش هزيمة حرب حزيران 1967 (النكسة)، وتداعياتها، على الصعيدين الشخصي والعام، حد الكوابيس الدائمة، التي تحضر كحكاية داخل الحكاية، في فيلم يمزج الواقع بالخيال، وفيه الكثير من الترميز، ما يجعل منه سردية سينمائية مغايرة.
ويتكئ المخرج على هذه الكوابيس، ليخلق حكايات موازية بعضها مستمد من صور الواقع المعاصر وتفاصيل الحياة اليومية للصحافي، وبعضها ليس إلا من تكوين عوالم الأحلام والكوابيس التي لا تفارقه، وتشعره بالهزيمة على الدوام.
في "حكاية شرقية"، هناك الكثير من الحكايات والأصوات المحملة بالمعاني والأفكار والدلالات، فنجد معلّم الموسيقى الذي يدرّب تلميذاً على عزف لحن أنشودة "موطني"، وهناك جنود يجمعهم الخندق كما تجمعهم أصوات القذائف، لكنهم لا يقاتلون مع أنهم في حرب، فعوضاً عن استهداف العدو، نراهم يمنّون النفس بنجاة يضيعون من أجلها أوقاتهم الصعبة بطريقة تبدو غرائبية، تعكس حالة من اللامبالاة، فأحدهم يلهو برصاصات فارغة، وآخر ينحت تمثالاً لزميله من طين الخندق، وهو ما يتساوق مع نصيحة رئيس التحرير للصحافي بتجاهل تداعيات الحرب، والاتجاه نحو الكتابة الخفيفة "اللي بتفرح الناس ع وجه العيد".
واللافت في الفيلم الذي يحاكي النكسة التي يعيشها الوطن العربي، منذ سنوات، خاصة لشعب مؤلف "موطني" وناظم أبياتها، أنه ينتصر للعادي في تركيب شخصياته، كبائع التحف الشرقية، أو الفرقة الشبابية التي تقدم عرضاً راقصاً في الشارع، أو عامل النظافة، أو غيرها من الشخصيات العابرة وغير العابرة في آن.
ويستعيد الفيلم برنامج "رسائل شوق" الشهير للمذيعة الراحلة كوثر النشاشيبي، عبر أثير الإذاعة الأردنية، والذي كان عبارة عن بريد عاجل ما بين الأقارب والعائلات التي شتّتَتْها حرب حزيران ما بين الضفة الغربية والأردن، مستعرضاً رسائل بأكملها من إحدى الحلقات، ليضع المشاهد في الإشكاليات التي تبدو عادية، وما هي بعادية، وبات يعاني منها الفلسطينيون في الأراضي المحتلة، وهنا يكتسب عرض الفيلم قيمة مضافة، مع تصاعد وتيرة تهديدات اليمين الإسرائيلي المتطرف بضم الضفة الغربية.
كما تحضر عبر شاشة تلفزيون في أحد المتاجر أخبار المواجهات في الأراضي المحتلة، إثر تصاعد الاشتباكات فيها، عن استمرار "الصدامات والمواجهات العنيفة في جميع الأراضي المحتلة، بين المواطنين الفلسطينيين وقوات الاحتلال الصهيوني، أصيب خلالها خمسة وخمسون مواطناً، واعتقل خمسة وأربعون، وقام شبان الانتفاضة بإعطاب عدد من آليات الاحتلال، وداهمت قوات الاحتلال العديد من المناطق الفلسطينية، كما فرضت منع التجول على العديد من المدن، وشددت الحصار العسكري على وسط مدينة رام الله"، فيما ظل يرافقه صوت طوال الليل بأن "صار لازم تسافر".
ويجسد مصطفى، باعتباره الشخصية المحورية في الفيلم، ذلك العربي الذي أحبطته الهزائم المتتالية، وحالات القمع المتعددة، غير أنه يبقى المؤهل لقيادة مجتمعه لو تمكن من ذلك، وهو ما يفعله حين ينجح في إنقاذ حافلة الركاب التي كان يسافر فيها برفقة زوجته، بعد أن أصيب السائق المسن بنوبة قلبية، فيقود الحافلة بأمان، لكن من ينال المجد رئيس تحرير الجريدة الذي يعلو صوته في الإعلام بأن "البطل" يعمل لديه، دون أن يحضر صوت الصحافي السائق، أو صوت ركاب الحافلة الذين يهنئون أنفسهم بالنجاة، وهي نهاية الفيلم الذي يحكي معاناة المواطن العربي المستمرة منذ "نكسة حزيران"، مروراً بانتفاضة الحجارة، وحتى أيامنا هذه.